د.عبدالله بن موسى الطاير
الأب ودوره محل دراسات متعمقة في الولايات المتحدة الأمريكية، وأصبح نظام الأبوة حقلا واضح المعالم في الدراسات الاجتماعية خاصة مع تصاعد الخطاب النسوي، وإشكالات الجندر، ونشوء «أسر» من النوع نفسه. يرصد علماء الاجتماع حقبا في تاريخ تطور مفهوم ووظائف الأب في أمريكا بدأت بالفترة الاستعمارية حتى الحرب الأهلية حيث القوامة للرجال؛ فهم المنفقون، المؤدِبون الكادحون لوضع الخبز على طاولة الطعام. الآباء حينئذ صيادون أقوياء، شجعان، مغامرون يكدون من أجل الأسرة، في حين تسخّر الإناث جهدهن لراحة الرجل، وينشأ الأولاد على نهج الآباء.
أحدث مطلع القرن العشرين تغييرا مثيرا للاهتمام طال الأبوة والأمومة إذ انخفض عدد المواليد بمقدار النصف تقريبًا، وارتضت عائلة القرن العشرين بمتوسط ثلاثة أطفال. أثرت الحرب العالمية وطفرة السيارات على الوقت الذي يقضيه الآباء في منازلهم، وسارت الأمور نحو الأسوأ بفعل الكساد العظيم وفقد ملايين الآباء وظائفهم، وصاغت الظروف المستجدة أدوار الجنسين؛ فجأة تحولت القوامة المنفقة إلى النساء اللواتي تبادلن المواقع مع الرجال الذين وجدوا أنفسهم في المنزل يقومون بأعمال النساء.
بلور القرن العشرين وظائف الوالدين التقليدية التي تضمنت التأكد من نظافة الأطفال وتهذيبهم، وتربيتهم على حسن التصرف والاحترام، أما الوظائف المفاهيمية فتمحورت حول الذات كاحترامها، وتشجيع الاعتماد عليها، والتفاعل الاجتماعي والمواطنة الصالحة، ومن هنا تمكن مفهوم الفردانية التي هي إحدى مطالب الرأسمالية والحريات والديموقراطية؛ فالشخص بذاته خاليا من صلاتِه الأسرية والعرقية والدينية. العبء الذي أُلقي على كاهل الأم والأب في هذه المرحلة كان ثقيلا إذ طولبا بأن يكونا سعيدًين وإيجابيين لتحقيق رفاهية أطفالهما؛ لم يعد الإنفاق والتربية كافيين وإنما وجب على الأب إصلاح حاله ومزاجه ليكون أباً جيداً.
توقع البعض أن الظروف الناشئة بعد الحرب العالمية الثانية والتي أدت إلى ازدهار الضواحي وهجر العديد من العائلات المدن ستسبب نكسة للنساء الراغبات في المشاركة في الحركة النسوية المزدهرة، ومع ذلك، كانت الأفكار النسوية التخريبية تصل إلى الأمهات في منازلهن، مما ضمن بقاء أفكارها على قيد الحياة وقادرة على النمو، وهو ما أثخن في مكانة الأب على بمرور السنوات وقتل رسالته النبيلة.
بنهاية عام 2010م وجد الآباء أنفسهم في عالم «أصبحت فيه المساواة بين الجنسين أقل مثالية وأكثر واقعية». تبادل الأزواج الأدوار التقليدية بشكل متزايد، وبقي الآباء في المنزل لوقت أطول، وعملوا في مختلف الأنشطة اليومية للمنزل، وشاركوا في اجتماعات جمعية الآباء والمعلمين التي كانت حكرا على الأمهات، وقاموا بنصيبهم في الغسيل، والتسوق من البقالة، و تحضير الوجبات، وبذلك فإن الرجل الغربي الذي تصوره أفلام هوليوود متعاونا في المنزل، لم يكن تطوعا منه وتميزا له على نظيره الشرقي، وإنما نتيجة تطور إجباري كابده دور الأب الأمريكي على امتدا عقود.
منحت الحياة المعاصرة الأطفال فترات طفولة أطول، وسمحت للآباء أيضا بالاحتفاظ بخصائصهم الطفولية؛ فمعاشر «الرجال المعاصرين يتصرفون على نحو مختلف عن آبائهم وأجدادهم، مما قلّص الفجوة بينهم وبين أبنائهم». لقد تضاءلت الحدود بين البالغين والأطفال، وتم تقييد الأب بالكثير من الأنظمة والتشريعات لتسخيره لخدمة أطفاله.
مجمل التشريعات التي أضيفت إلى فطرة الأب في رعاية أطفاله، لم يقابلها سياسات تلزم الابن الذي لا توجه الفطرة ملامح عاطفته تجاه والديه، ولذلك يجد الأب في وجهه، بمجرد بلوغ الابن أو البنت، عبارات صادمة من أمثال «أنا حر»، «أنا كبير»، «لا يحق لأحد توجيهي أو تقييد حريتي» فالعهد الذي بين الابن ووالديه هو المادة ولم يعد بحاجة إليها، ولذلك يغادر كثير من الأبناء والبنات بيوت والديهم، وأحيانا تكون مغادرتهم نهائية.
تجربة الأبوة الأمريكية ليست مثالا جيدا للتعميم، ولكن قوة أمريكا الناعمة في مجال البحث العلمي، وشهرتها في الدراسات الاجتماعية، ووجود أجندة سياسية خلف الظواهر الاجتماعية كفيل بفرض النمط الأمريكي للأب من جانب، وللابن أو البنت من جانب آخر، وستصبح العلاقة داخل الأسرة علاقة غرباء بينهم حد أدنى من الالتزامات المتبادلة. أعرف آباء غربيين يجهشون بالبكاء عند الحديث عن أبنائهم وبناتهم، فهم مرغمون على قبول تصرفاتهم، بل والإشادة بها أحيانا خشية من التجريم.