عبدالوهاب الفايز
قبل أن نتحدث عن هؤلاء الذين لا تعجبهم رياح السلام والأمن في الشرق الأوسط.. الذين قد يسعون لإفشال هذه المساعي..
أمامنا فرصة للاستمتاع والاعتزاز بالصورة الحية للمسؤولين السعوديين وهم يتجولون في عواصم العالم حاملين مشاريع البناء والسلام الذي تحتاجه منطقة الشرق الأوسط، فجهودهم هي استمرار للنهج الذي قامت عليه بلادنا منذ تأسيسها، فقد سعت في نشر الإعمار وصناعة مقومات الحياة، وتعزيز الأمن والاستقرار للشعوب. لقد ظلت بلادنا وفية لمصالح الشعوب، لأنها هي الباقية.
أما الأفكار السياسية والأيديولوجية، أو المشاريع والأحزاب والأنظمة.. كل هذه لا تدوم، فهي المتغير في المعادلة، أما الثابت فهو الجغرافيا والتاريخ والماء والهواء والكلأ والنار، والأحلام الجميلة للشعوب.
والالتزام لمبدأ تقدير مصالح الشعوب هو الدافع لإتمام الإتفاق السعودي الإيراني، هذا الاتفاق الذي هز المنطقة وأربك المشهد، فالآن يرى العالم الانطلاقة السعوديه الفعلية القوية لقيادة مشروع السلام في الشرق الأوسط الكبير.
مشروع السلام الجديد سوف يأخذ المنطقة لإنهاء حروب ونزاعات الثلاثين عاماً الماضية التي دمرت الاقتصاد وجعلت الدول تتنقل بين الحرب والسلام، وتشهد حالات الخصام ثم التصالح والتراضي، وتراب المنطقة ارتوى بدماء الملايين من البشر، ومثلهم يعانون من الإعاقات الجسدية والنفسية، ومعهم الملايين من المشردين.
وأسوأ ما شهدته المنطقة هو حالات الثورات والانتفاضات، والحروب بالوكالة، وتوزعت النزاعات في أغلب دول المنطقة بالتساوي.. فالشعوب لحقها لهيب النار، والدول العظمي ظلت مستمتعة بهذا الصراع، فالأموال والثروات تَهرب وتُهرب إليها، ومصانع الأسلحة مستمرة في الإنتاج.. وظلت تناور وتتآمر لبقاء إستراتيجيتها الكبرى: لا حروب مدمرة تدوم.. ولا سلام كامل يتحقق! شعوب ودول الأفضل لها أن تظل على صفيح ساخن. ولتحقيق هذا الضياع للمنطقة، أُطلقت وُدعمت المشاريع السياسية والأيدلوجيات العظمى المجنونة، ورُتبت مشاريع التجسس، وجندت مجموعات النفوذ والمصالح، واشتريت الأقلام والمنابر والقنوات، وتُدعم مشاريع التغريب الثقافي والفكري، والشذوذ الجنسي.
المهم أن دول المنطقة تصل الآن إلى قناعات السلام والأمن وهي مثقلة متعبة، ومستسلمة لاحتياجات وتطلعات أجيال خرجت من رحم الأزمات، بالذات في إيران التي تصل إلى أهمية السلام بعد أن استنزفها مشروع تصدير الثورة. وحتى إسرائيل - التي ينهكها الاحتلال - أجيالها الجديدة الحالية مفصولة عن مشروع الصهيونية، وهذا يجعلها تواجه أزمة وجودية، وسبق أن أكد انحدار إسرائيل إلى هذا المنزلق الوجودي المفكر اليهودي نعوم تشومسكي الذي عاش الحلم اليهودي في بداية قيام إسرائيل، وتركها حين تطور وعية السياسي واكتشف زيف المشروع الصهيونى، وهذه الحالة يتوقعها للأجيال الجديدة المتعلمة.
وقبل تشومسكي هناك المفكر اليهودي المتخصص في تاريخ الشرق الأوسط برنارد لويس الذي يرى أن إسرائيل سوف تعاني من الحروب والقلاقل الداخلية، ويتوقع أن هذه القلاقل سوف تسهل عملية السلام في المنطقة لأن الأجيال الحالية في دولة إسرائيل هي غير الأجيال التي أنشأها الآباء المؤسسون، أي ذلك المجتمع الرائد الخشن والصلب في أساليبه، والمتقصف والمكرس نفسه للمعتقدات، على حد تعبيره، ويتوقع أن يكون الشعب المزدهر الليبرالي أقل استعدادًا لدفع ثمن المصاعب الناشئة عن احتلاله لأرض شعب يقاوم هذا الاحتلال.
ومن توقعاته، التي جاءت في منتصف التسعينيات الميلادية، يرى أن تقدم الأحزاب الأصولية المتطرفة سوف ينهي الديمقراطية في إسرائيل، وهذا ما نراه في حكومة ناتنياهو الحالية. وصعود الأحزاب المتطرفة، التي يصرح قادتها بضرورة إبادة الفلسطينيين، أصبح مصدر إحراج للأحزاب والجماعات والمفكرين ووسائل الإعلام المحسوبة على اليسار الصحوي الغربي المتطرف. هذا الواقع الإسرائيلي يصطدم مع نموذجهم السياسي والثقافي، وهذا مصدر التهديد الحقيقي للقوة الناعمة التي ظلت إسرائيل تروج لها منذ قيام حضارتها قبل ثلاثة آلاف عام، كما تزعم!
والسؤال هو: من هم الذين ربما لا يعجبهم توجه دول المنطقة للسلام؟
نتوقع أن مجموعة الكتلة الغربية، أوروبا وأمريكا، هي من سوف يعترض على مشروع السلام الجديد الكبير. هذه الكتلة سوف تقاوم لاعتبارات عدة. أولاً، لديها مشاكلها مع نفسها، فلديها عقدة التفوق الحضاري والمركزية الخاصة (الخصوصية الغربية.. نحن وما خلفنا البرابرة). ثانياً، لديها نزعة الهيمنة والسيطرة التي اكتسبتها من قرون القهر والاحتلال والاستعباد للشعوب، وهذه مكنتها من نهب الثروات وبناء مدنيتها المعاصرة.
أيضا، ثالثاً، لديها الرغبة الراسخة لقيادة العالم، وهذه تتطلب ضرورة احتواء الصين وإيقاف تفوقها. وهناك، رابعاً، (مشروع الشرق الأوسط الكبير)، فهل المشروع العظيم هذا ما زال حاضرًا في أولويات السياسة الخارجية الأميركية، وهذا المشروع وضعه منظرون وقيادات المحافظين الجدد، وانطلقت أدبياته السياسية من أفكار برنارد لويس الذي رأى أن الشرق الأوسط يمكن السيطرة عليه من خلال التقسيم السياسي المبني على الطائفية والمذهبية.
ويبقى هذا السؤال الكبير: هل مسار الصراع في المنطقة وإعادة تشكيل الشرق الأوسط ما زال حاضرًا في إستراتيجية الهيمنة الأوروبية الأمريكية، والتي تقتضي بعدم وجود قوة إقليمية أو عالمية تهدد مصالحها.
المعروف في الأدبيات السياسية ومنذ بداية عقد التسعينات تبني الحكومة الأمريكية ومعها الكونجرس وثيقة للدفاع أقرت بضرورة التحرك لقطع الطريق أمام أية قوة منافسة في أوروبا أو آسيا أو الشرق الأوسط، وحددت الوثيقة أن تكون أمريكا هي القوة العظمى الأولى المهيمنة على العالم. إذا صح إقرار هذه الوثيقة والعمل بها فهو يفسر الدخول الأمريكي القوي في حرب أوكرانيا، ويفسر توحد الموقف السياسي الأمريكي الداخلي تجاه المواجهة مع روسيا والصين، وبالطبع بالنسبة لنا: سوف يفسر الموقف الأمريكي من جهود بناء السلام في المنطقة، فهل تدعم أم تعطل هذه الجهود.
نحن أمام امتحان للمواقف، وسوف نكتشف ما تخفي النفوس!