رمضان جريدي العنزي
الحلتيت نبات ذو رائحة كريهة، وطعمه مُرٌّ، يطلق عليه أحياناً (روث الشيطان Devil› dung)، فيه خطورة، وله محاذير، ويحدث سمية عالية إذا تم استخدامه بشكل مطلق غير مقنن ولا مدروس، بعض التنظيريين مثل الحلتيت يقولون ما لا يفعلون، يتحدثون عن المثالية والكمالية من خلال التنظير (البلوشي) يمعنون في السرد والكلام المخملي ويأسرهم الخيال اللامنطقي، يعيشون التناقض الحاد بين تنظيرهم الوردي وواقعهم المر، ثمة مسافات كبيرة وفراغات هائلة بين أطروحاتهم وحقيقتهم، واقعهم المعاش يختلف جذرياً عن شطحاتهم التنظيرية، التي كثيراً ما تتكسر على شاطىء الحقيقة والواقع، يحكى أن امرأة جاءت إلى غاندي تنشده أن ينصح طفلها بالكف عن تناول الحلوى، فطلب أن تعود إليه بعد شهر، فلما عادت قال للصبي بكل بساطة: توقف عن أكل الحلوى, تعجبت المرأة من تصرف غاندي فقال: منذ شهر كنت أنا أكثر من أكل الحلوى، ولكني توقفت عن أكلها منذ ذلك اليوم حتى يكون لنصيحتي أثرٌ، تختصر هذه القصة الكثير من المواعظ والخطب والتنظيرات التي تتلى على مسامعنا كل يوم، فموقف واحد تتجلى فيه القيمة خير من ألف موعظة، يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي في كتابه النوعي - مشكلة الثقافة - «إن الذي ينقص الإنسان ليس منطق الفكرة، ولكن منطق العمل والحركة، فهو لا يفكر ليعمل بل ليقول كلاماً مجرداً».
لقد عجت في الآونة الأخيرة وسائل التواصل الاجتماعي بالمنظرين، فهذا ينظر عن صلة الرحم ورضى الوالدين، والخشية والتقوى، والأخلاق والسلوك والتعامل، والآخر عن البر والإحسان، والتقيد بالواقعية والعقلانية، والنظافة وحقوق الجار، والأمانة والمحافظة على الوقت، وعدم الكذب والبعد عن المداهنة والنفاق، تنظير، تنظير، تنظير، ولكن قلما نجد من هؤلاء من يطابق تنظيره عمله، أنا لست ضد الكلام الحسن الجميل، لكنني ضد التناقض الحاد بين القول والعمل، فحين تفقد الكلمة معناها يكون الصمت أبلغ وأجدى، إن ما ينظر به البعض يشبه العالم الافتراضي لا يمت لواقعهم الحقيقي بصلة، ولكنها مجرد مثالية لفظية ليس إلا، إننا اليوم نحتاج إلى قدوات ونماذج، لا منظرين وخطباء ووعاظ، نحتاج قدوات ونماذج تشعر بالكلمة وتعيها وتعمل بها حين تقولها بكل أمانة وتفانٍ وصدق وإخلاص، لا يهم نشر التنظير وقول الموعظة بقدر ما يهم الالتزام الفعلي بها وتطبيقها.
إن المنظر المتناقض قابع في اللاوعي، مثل منكر الواقع، وبائع الوهم، والنرجسي الذي يعتقد بأنه الأفضل والأجمل والذي لا يدانيه مطلقاً أحد، قال تعالى في سورة البقرة: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ، فيا أيها المنظرون تمعنوا في هذه الآية الكريمة جيداً، نسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الذين يعملون بما يقولون، ويفعلون ما يؤمرون، وأن يجيرنا من مقته وغضبه وسخطه، وأن يوفقنا لما يرضيه.