سألني صديقٌ عن الكتب التي يهمني اقتناؤها متوقعاً بأن يكون لدينا عدد كثيرٌ من الكتب والمؤلفات لأنني أضفتُ إلى ما هو موجود في مكتبة الوالد مزيداً من العناوين لكنه قد تفاجأ عندما أبلغته بأنَّ اقتناء الكتب حسب منهجي يتبعُ منطق النوعية وليس الكمية لذلك قد لايبلغ ماعندنا ألف عنوانٍ بما فيه كتب في مجال الدراسات الدينية والفكر الصوفي وهو ماكان موضوع اهتمام الوالد على الأكثر إذ واصل اقتناء مايقعُ ضمنَ هذا النوع بدون كللٍ. هذا الحوار الخاطف بشأنِ موضوع الكتب كان قبل أيام من نشوب الحريق في البيت.وبالطبع عندما يُخبرُ المرءُ بمثل هذا الحادث حتى ولو عنده رباطة الجأش والعزيمة يشعرُ بأنَّ الأرض قد تهاوت به وينقطعُ عن الحياةِ نفسياً ويصبحَ كائناً بدون الأبعاد، إذ تختلطُ في ذهنه الصورُ وينهشه الشكُ حول مصيرِ من كان بموقع الحدثِ، ولايصدقُ من يريدُ تهدئته من خلال المكالمات بأنَّ الأهل لم يحل بهم المكروه والغريب في الأمر هو الامتداد في المسافات المحدودة فإنَّ الانتقال من مكان إلى آخر يشبه السفر على طريق لاينتهي تماماً كما نراه في الأحلام حيثُ يبدوُ الزمنُ مطاطياً يصعبُ عليك معرفة نقطة الارتكاز في حيثيته.والبصيص الوحيد في هذا النفق الكابوسي هو صوت الأم الذي سمعتهُ إذ أخبرتني بأنّها بخير وهي بالطريق إلى المستشفى وماتأكدت منه أنَّ كثيراً من الأغراض قد عبثت بها النار غير أنَّ المشهد الأغرب كان ينتظرني في مسرح الحدث هالني بأن المكان الذي كان آخر عهدي به ليس أكثر من بضع ساعات قبل أن أتلقى المكالمة الصادمة. لم يعدْ كما غادرتُه. وقتئذٍ قد أدركتُ بأن الاغتراب ليست الإقلاع عن موطنك ولا البعدُ عن مراتع الصبا بل أنْ تعودَ إلى مكانك وهو قد أصبح منعدمَ الشكل ولايمكنك أن تتحركَ في مساحته لأنَّه قد خسر تركيبته .إذن عليك أن تجوسَ في المكان كأنكَ تبحثُ عن موطيء القدم على أراضٍ غير آمنة.
عودة الحياة
لاتغيبُ المعجزات عن عالم الكائنات الحانية فعلى الرغم من ألمها وحسرتها على ماوقع .حاولت والدتي أن تواسيني وتخففَ عنا وطأة الصدمة. وهذا يكونُ تحدياً بالنسبة إليك ولايعقلُ أن يبدوَ إيمانك أقل من إيمانها إذن لامناص من الخروج من متاهة الواقع السوريالي. ولملمة شظايا الروح الهائمة على الصور المُتناثرة. وبالطبع إنَّ هذا الوضع يلغي البرنامج ويقوض النظام اليومي ويتسرب منه الوقت عبثاً وهذا مايزيدُ الشعور بالملل.ولاتجدى المحاولاتُ نفعاً للتصرف كأن شيئاً لم يكُنْ، بعد التأكد بأنَّ مانعيشهُ حقيقة، وليس كابوساً مؤرقاً يمكنُ أن ينتهي مع الصحوة.حاولتُ معاينة الكتب هل طالها لهيبُ النيرانُ ؟ آخر كتاب قرأتُه قبل ذاك اليوم القاتم هو «كيف تُلقنُ كلبك الفلسفة؟» للباحث البريطاني «أنطواني ماكغوان» من الكتب التي قد نجت من النار مع أنها حرقت أطرافها «دعونا نتفلسف» للكاتب العراقي «علي حسين» تلة يسكنها الأعداء» فدوى العبود «حجر السعادة « أزهر جرجيس «قارىء الرواية» شرف الدين ماجدولين. وهذه العناوين المنتشلة من بركة الماء التي تكونت جراء محاولة الأصدقاء لإخماد النار لاتزال صالحةً للقراءة لكن بعض ما كان مدرجاً ضمن جدول القراءات القادمة قد أتلف منها الفلسفة اليونانية قبل أرسطو للباحث العراقي حسام الآلوسي وبعض العناوين الأخرى قد داعبتها النارُ. منها إخوتنا الغرباء لأمين معلوف. دروس شهرزاد لعايدة الجوهري،فن العيش الحكيم لشوبنهاور، سيبقى الحب سيدي نزار قباني . يذكرُ أنَّ هذه العناوين كانت متناثرة في ركني الذي أشبه برف المكتبة. أخيراً ضاع كتاب أنطوني ماكغاوان ومن المفارقات الغريبة أنَّ هذا الحادث قد صادف مع اقتراب معرض أربيل الدولي للكتاب الذي تقيمهُ مؤسسة المدى وما أضاف إلى المعرض في دورته الجديدة هو وجود فعاليات نوعية بمشاركة كوكبة من الأدباء والمفكرين العرب منهم شكري المبخوت، هاشم صالح، علي حسين، طه جزاع، رشيد الخيون. لاهاي حسين. بالفعل إن زيارة المعرض ومتابعة الندوات والفعاليات القيمة كان عاملاً للعودة إلى الحياة واستئناف النشاطات وإنقاذ مايمكنُ إنقاذه من الوقت. ماعشتهُ من الأجواء التي تبعاتها تحاصرنا إلى الآن يؤكدُ ماذهب إليه سينيكا «سنكون مخطئين لوجزمنا بأن أي مكان في الأرض سيكون آمناً ومنيعاً» وأخطأ باسكال في قوله بأنَّ السبب الوحيد لتعاسة الإنسان هو قلة معرفته كيف يجلسُ في غرفته هادئاً، ماذا سكون الموقفُ إذا تحولت الغرفة إلى الخط الأمامي لمواجهة الكارثة أو هز الزلزال أركانها؟ لا أستعيدُ هذه الأحداث لأعلنَّ بأنَّ الحياةَ موبوءةُ وتستنفدُ كل إمكانيات الفرح في ربوعها بل ما أريد قوله أنه على الرغم من غوايتها الفاتنة وسحرها الفريد فإنَّ الحياة ماكرةُ تراوغك بمفاجآتها الغريبة وأحياناً تتمثلُ السعادةُ في الخروج بأقل الخسائر والتحلي بالصبر وعدم التعليق على ماحدث ر بما أكثر الأشياء عدميةً هو التفسير عقب وقوع الحدث والاسترسال في الافتراضات التي فرَّغها الواقعُ من أي قيمةٍ.بالنسبة إليَّ فإنَّ الحظ قد حالفني لأنَّ الحدث قد انتهى بدون خسارة روحية فهذا هو الأهم.صحيح إنَّ الأجندة قد تخلخلت غير أنَّ الطاولة سيتمُ ترتيبها من جديد وتبدأُ جولاتٌ من الاكتشاف والتنقيب عن الفرح في الواقع المُتصدَع. لأنَّ المساحات عامرةٌ بالكتب والدور الأساسي للإنسان هو إعادة البناء، والجهاد الأكبر هو بناء الذات قبل ترميم المكان.كنتُ شاهداً على حسرة والدي على ضياع كتبه النفيسة جراء التهجير وعدم الاستقرار ومن ثمَّ تابعتُ مرحلة إعادة تشكيل المكتبة من جديد. لعلَّ أصعبَ مايتبعُ الكوارث هو مواجهتك مع معجم مختلفٍ لاتنتمي مفرداته إلى أيامك.
فلسفة البساطة من الأماكن التي تم اكتشافها في غضون الأيام التي تلت الحادث هو المقهى «شايخانه» وجدتُ على كنفه حياةً صاخبة تيارها هادرُ إذ يتسعُ هذا المكان للجميع يتيحُ مجالاً لمتابعة تفاعل رواده مع ألعاب الدومينو والنرد وفيما أتاملُ انسياق الناس مع اللعبة أتفهم أكثر مايعنيه هذا المجال بالنسبة إلى الإنسان الذي يحتفي بأفراح صغيرة كأنها لحظات خالدة.اللعبة هي سترةُ الكائن البشري تحمي شعوره من التيبس والشيخوخة. مع أننى مقلُ جداً في ارتياد المقاهي لكن مايسودُ في مناخها يعبرُ عن الحيوية إلى أقصى درجةٍ البساطة والتضامن والمرح عناوين لهذه البيئة.وأنا أشاهدُ كل ذلك أقولُ للسيد سارتر عذراً ليس الآخر جحيماً.وأرددُ مع نفسي بأنَّ شوبنهار كان متغرطساً لأنَّه كان يحجز مكانين في المطعم حتى يكونَ أبعد من نظيره الإنسان.هنا لايعقل تجاهل دور الأصدقاء واستمرارهم في التواصل للاطمئنان على الأهل. بالعودة إلى موضوع الكتب فإنها لاتغادرُ الفضاء أبداً فهي أصبحت معادلاً موضوعياً للحياة عندما يختفي عددٌ من العناوين هذا لايعني بأنَّ مسيرة القراءة تنتهي ولا شغفَ بعوالمها يتوقف. من المعلوم أنَّ للكتب أعداءً إذ دُمِرت المكتبات وأُقيمت الحفلاتُ لحرق المؤلفات وإنَّ الحملات الهمجية للغزاة استهدفت باستمرار البنية الثقافية والمعالم الحضارية فمدينة بغداد كانت على مرمى سهام عبدة الظلام في حقب تاريخية مختلفة وإلى اليوم يتمُ تشديد الحصار على المدن التي رأسمالها هو الكتاب وماتُصدره من العناوين لكن هذه الحواضر الثقافية مابرحت رئتها تتنفسُ الفكر والأبجدية كما أنَّ بعض شخصيات فلسفية مُتطلعة إلى حرية العقل تحولت أجسادها إلى وقود النيران هنا يلوحُ طيفُ الفيلسوف الإيطالي جوردانو برينو والسويسري مشيل سيرفيه والمصلح التشيكي يوحنا هوس .طالما يكونُ الإنسان على قيد الحياة فهو جديرُ بهذه الفرصةِ ومن الضروري أنْ لايهربَ من مسؤوليته الوجودية.وبالطبع عندما يتوارى ويُصرفُ عنه النورُ لايحقُ له أن يلومَ غيره لأنَّه قد يُنسى كأنه لم يكنْ وفي ذلك حكمة بليغة. وبالطبع أن الحياة تتسعُ لكل شيءٍ ومالاتقبلُ به أبداً هو أن تكونَ ميتاً ومحسوباً عليها.
** **
كهيلان محمد - العراق