د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
ثاني موضوعات كتاب النحوي القدير الأستاذ الدكتور/ محمد عبدو فلفل (المعنى في النحو العربي بين الوفاء لوظيفة اللغة وإكراهات الصنعة النحوية) هو موضوع (المعنى في النحو العربي عند المحدثين).
بدأ الحديث بأن الدراسات الحديثة في المعنى تكاد تختزل في توجه من توجهين، أما ثالثهما فخافتٌ مع أنه أدنى إلى الصواب، ويرى أحد هذين التوجهين أن النحو العربي لم يعتن بالمعنى عناية شافية، وأما الآخر فيرى المعنى ضابطًا أساسيًّا من ضوابط التفكير النحوي، ويبحث كلاهما عما يؤيده في التراث النحوي، ويفهم هذا من قول كريم الخالدي في بحثه (نظرية المعنى في الدراسات النحوية)؛ فهو يذهب إلى أنه وجد عناية للنحويين بالمعنى، وهو ما أثبت الباحث [الخالدي] صحته بالأدلة والنصوص الموثقة، وهي نتائج يعتز بها؛ لأنها تدحض ادعاءات من ينكر وجود أثر للمعنى في الدراسات النحوية الأولى.
ويرى أستاذنا الدكتور محمد عبدو فلفل أن المنكرين ربطوا قصور اهتمام النحويين بالمعنى في تغليبهم نظرية العامل على المعنى؛ فإبراهيم مصطفى يؤكد هيمنة نظرية العامل على النحو وكأنها هي النحو كله، إذ توجه الإعراب وجهة لفظية قلما تحفل بالمعنى، فلم يروا في علاماته إشارة إلى المعنى ولا أثرًا في تصوير المفهوم أو إلقاء الظل على صورته، وشبيه هذا ذهاب خليل أحمد عمايرة إلى أن إسراف النحويين ببحث العامل وأثره أجاءهم إلى بحث مسوغ لكل حركة آخر إعرابية منصرفين عن المعنى، وكان عليهم أن يروا العلامة رمز تغيير في المعنى لا أثر عامل. ورأى مهدي المخزومي أن خلفاء الخليل والفراء لم يدركوا موضوع دراستهم ولا حدود تخصصهم، وأنه فاتهم كثير من الأصول التي هي من صلب موضوع الدراسة وأهملوا أهميتها وعمق صلتها به مقتصرين على فكرة العمل والعامل من حيث تأثير بعض الكلمات في بعض، وهو جانب ضئيل من جوانب الدرس النحوي الحق الذي استأثر به البلاغيون، وهم النحويون الحقيقيون الذين طوروا النحو فأنتجوا ما هو خليق بالإفادة. وكذا ذهب تمام حسان الذي وصف الدراسات اللغوية العربية بأنها اتسمت «بسمة الاتجاه إلى المبنى، ولم يكن قصدها إلى المعنى إلا تبعًا لذلك وعلى استحياء»، وكذلك أظهر فاضل السامرائي أن اهتمام النحو الأول هو حالة اللفظ إعرابًا وبناءًا مع أمور أخرى مهمة كالذكر والحذف والتقديم والتأخير؛ ولكن ثمة موضوعات أهملها النحويون وهي لا تقل عن ما بحثوه أهمية إن لم تفقه، وهذه حقيقة لعجزنا عن فهم كثير من التعبيرات النحوية أو تفسيرها أو التمييز بين معانيها. بل لا نحسن فهم اللغة لتعلق دراساتنا بالعلاقات الظاهرة بين الكلمات، أما المعنى فبعيد تناوله وفهمه، بل لعلنا نجهل أكثر مما نعلم؛ ولذا نحن بحاجة ضرورية إلى فقه للنحو، مع أن دراسة النحو على أساس المعنى ضرورة فوق الضرورة تهب الموضوع نداوة وطراوة وتكسبه جدة وطرافة بخلاف ما هو عليه من جفاف وقسوة.
ويقفنا أستاذنا على جهود بعض الدارسين الذين أعجبوا أو اقتنعوا أو رضوا بعض الرضا بعناية النظرية النحوية العربية بالمعنى، فكتبوا ما يثبتون به ذلك وما يردون به على من فاتهم إدراك تلك العناية، ومن هذه الجهود (الشكل والدلالة؛ دراسة نحوية للفظ والمعنى) لعبدالسلام السيد حامد، و(نظرية المعنى في الدراسات النحوية) لكريم الخالدي، و(منزلة المعنى في نظرية النحو العربي) للطيفة النجار، و(الدلالة والتقعيد النحوي؛ دراسة في فكر سيبويه) لمحمد سالم صالح، و(وظيفة التفكير النحوي عند النحاة العرب) لمحمد محمود عيسى محاسنة، إلى بحوث ودراسات كثيرة أخرى.
وبين أن الجامع بين تلك الأعمال رغبتها في إظهار حرص النظرية النحوية العربية على عنايتها بالمعنى في كل مكوناتها من مصطلحات وحدود وضوابط وأحكام وتطبيقاتها العملية بتحليلها المدونة اللغوية تحليلا عده أصحاب هذا الاتجاه حرصًا من النظرية النحوية على ربط تراكيب العربية بوظيفتها الدلالية وبأثر عناصر التركيب في ذلك.
ونبه إلى أن شدة حرص هؤلاء على بيان عناية النظرية النحوية بالمعنى قادهم إلى شيء من الانتقائية المعاندة للبحث العلمي، انتقائية تحجب الموضوعية وتحري حقيقة ما نواجه لا ما نحب أن نواجه. ولذا أُغفل أو سُكت عن جانب للنظرية فيه حيف على المعنى كما في عمل كريم الخالدي (نظرية المعنى في الدراسات النحوية). وفي الموضوعات القادمة جلاء لشيء من ذلك.