الدهشة فتنةٌ نائية، وحيناً تبدو مثل سرابٍ، لا يلاحقها إلا الأديب الفذ في رحلة البحث عن معنى، يظل يراودها باصطبارحتى تنجذب لسحر غوايته، فيضيء بها نصه المنتَظَر.
قد تُـشْـرِعُ مقوماتُ النص آفاقاً للمبدع ليُحَلقَ خلف شعاع دهشته البعيدة حتى يظفر بها، وهو ما تفعلهُ قصائد الشطر والنثر والتفعيلة حين تفسح لشعرائها طريقاً نحو فضاءات البلاغة والمؤثرات اللغوية، لينسجوا من زخرف اللفظ ما مِن شأنه أن يضفي على واجهة النص هالة من الإثارة، تغري القارئ، وهي إثارة مؤقتة سرعان ما تخبو تحت وطأة عجلة الأيام.
أما نص الهايكو فَيَحُولُ دون تلك الفضاءات، ويفرض على كاتبه دهشةً لا تَـمُتُّ إلى بهرج اللغة بأي وثاق، فسطره الثالث يتهيأُ لكسر أفق انتظار المتلقي، وإلا فإن المعنى سيولد باهتاً، ويفقد النص بريقه.
ومحكُّ دهشة النص جريانُهُ على ألسنة الناس، وحياتُهُ بينهم، فلا يأتي الحديث عن مبدع إلا وتُطل نصوصه من شبابيك الذاكرة، ومن هؤلاء المبدعين الأديب المغربي/ سامح درويش.
فما أن يذكرُ هذا المبدع حتى يتبادر إلى الأذهان نصه الشهير الذي صار أنموذجاً يُشارُ إليه في الهايكو المكتوب بالعربية:
«علَى حافة البئْر،
الدّلو
يمْلؤُه المطر»
فلا يمكن للمتلقي أن يتنبأ بالمفارقة التي أعدها درويش في هذا النص، وفاجأه بها في السطر الثالث، فالدلو على حافة البئر إما أن تكون فارغةً، أو مثقوبة، أو مكسورة – في حال خلوها - أو مملوءة بماء من البئر ذاته، لكن سامح قفز من فوق تلك الاحتمالات الممكنة، وكسر أفق التوقع بمعنىً أكثر جمالاً وأعمق دلالة. حيث يحيل قارئه إلى مصدر آخر بعيد لهذا الماء، وهو المطر. والقارئ لنصوصه سيُفاجَأُ بأن كثيراً منها يتبع النهج ذاته في بناء المفارقات المنطقية غير المتكلفة ولا المصطنعة.
ومما يُلمسُ في مشاهده الهايكوية إلى جانب بساطة الحدث أن حيزها الزمني ضيق للحد الذي يجعلها أحياناً غير مثيرة للانتباه، كالنسيم الذي هز أزهار اللوز، أو اهتزاز غصن حط عليه الهدهد ثم طار سريعاً، وغير ذلك من المشاهد الخاطفة التي لا يأبه لها أحد، لكن ذلك لا ينفي حضور مشاهد لافتة، تتسم بجدة الفكرة، وربما تُوحي للقارئ بأنها من نسج «الفانتازيا»، فهي أشبه ما تكون بلقطات الأنمي المتلفزة رغم منطقية أحداثها، ويعود ذلك التصور لندرة الواقعة، كقوله:
«يا للبهجة الغادرة
بقفزة خاطئة
تقع السمكة خارج الماء»
وإليكم هذه المختارات من نصوصه
من النبع
أحفن وجهي
وأشرب
***
طيلة مراسم العزاء
لم يكف الكناري
عن الغناء
***
يا للوحشة،
وجهي على زجاج النافذة
يعكسه الظلام
***
هذا الظلام كله؛
لم يحجب أزهار الكاميليا
في رأسي
***
مُرْتعِبًا من الضّوء،
يلُوذُ بِي
خفّاش الدّار القدِيمة
** **
- أحمد يحيى القيسي