د. تنيضب الفايدي
تعتبر العلا (وادي القرى) وما حولها مثل الحجر والخريبة من أهم وأقدم المدن إطلاقاً في الجزيرة العربية، حيث لم يعرف بداية تاريخها على وجه الدقة إلا أن العلماء مجمعون على أن تاريخها يعود إلى ما قبل الميلاد بآلاف السنين، وقد مرت بعدة حضارات خلّفت كل حضارة بصماتها التاريخية والأثرية متمثلة بالنقوش والمباني والمعابد والأدوات والمنشآت الحجرية وغيرها، ووجدت مدينة تعتبر مدينةً حديثة إذا ما قيست بتاريخ الحجر والخريبة وهي مدينة المابيات، وتعرف باسم قرح، وتقع المابيات على مسافة قريبة من العلا، وهي بالقرب من مطار العلا، كما أنها بالقرب من مغيراء التي أصبحت حياً من أحياء العلا حالياً، ويعود تاريخ الموقع إلى العصرين الأموي والعباسي، وهو من أهم المواقع الإسلامية المبكرة في وادي القرى خلال الفترة الزمنية الواقعة بين القرنين الثاني والرابع الهجريين، وقد ازدهرت مدينة المابيات في القرن الثالث والخامس للهجرة إلى أن أفل نجمها في أواخر القرن السادس الهجري، حيث لم أجد ذكرها لدى المؤرخين والرحالة بعده، ويبدو أن سبب ازدهار مدينة المابيات يعود إلى تزايد الحجاج المارين بها مما أدى إلى انتعاش الحياة الاقتصادية كونها محطة من محطات الطريق إلى مكة المكرمة. وقد وصفها المقدسي في القرن الرابع الهجري بأنها المدينة الثانية في الحجاز بعد مكة المكرمة، كما وصفها الأصطخري بأنها المدينة الرابعة بعد مكة والمدينة واليمامة، وقد جاء بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في صعيد قرح في مسيره إلى غزوة تبوك أي: أنه صلّى في موقع المابيات قبل نشوء المدينة، يقول الحموي في معجم البلدان (3/ 463): «الصعيد: واد قرب وادي القرى فيه مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، عمّره في طريقه إلى تبوك. وفي رواية لابن زبالة: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي بصعيد قرح من الوادي، وعلمنا مصلاه بأحجار وعظم، هو المسجد الذي يجمع فيه أهل الوادي»وفاء الوفا للسمهودي (3/ 467).
وقد ذهب بعض المؤرخين بأن المابيات هي موقع أصحاب الحجر أو مدائن صالح الذي جاء ذكرها في القرآن الكريم {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} سورة الحجر الآية (80-84). وهي الموقع الذي مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذهابه إلى غزوة تبوك فأسرع، وأمر أن لايدخلوا مساكنهم إلا أن يكونوا باكين، فقد روى سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مرّ بالحجر قال: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم، ثم تقنّع بردائه وهو على الرحل» رواه البخاري. كما نهاهم عن التزود من مياههم، فقد قال ابن عمر رضي الله عنهما: إن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض ثمود، الحجر، واستقوا من بئرها، واعتجنوا به، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا من بئرها، وأن يعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة. رواه البخاري. والصواب أن المابيات عبارة عن مبانٍ صغيرة فهي قرية ذات مبانٍ معدودة ولايمكن أن يطلق عليها مدينة، ناهيك عن مدائن صالح، وهل يعقل بأن حضارة مثل قوم ثمود تنحصر في بقعة صغيرة، هذا غير معقول.وقد حددت مساحة المابيات بـ(640 ألف متر مربع وهي مربع الشكل (أي: 800 × 800م)، ويتوسطها بقايا مسجد قديم، ولازالت شوارعها مرصوفة بالحجر (فرشة الحجر) مثل المدن الحجازية قديماً، أي: مثل المدينة المنورة قبل (80) عاماً، وقد اكتشفت مدينة المابيات عام 1984م حيث قامت وكالة الآثار بإجراء تنقيبات أثرية في الموقع حيث ظهرت بقايا مدينة إسلامية محاطة بسور متعرج، وبعض المباني مشيدة باللبن المجفف والآجر، وطليت جدرانها من الداخل بالجص ومن الخارج بالطين، وبلطت أرضيات بعض الغرف ببلاطات رقيقة من الطوب المحروق، وبعضها مبلطة بالجص أو الطين؛ ومن أهم المعثورات التي وجدت في هذا الموقع أجزاء من الأواني الخزفية والفخارية؛ كان من أبرزها الخزف ذو البرق المعدني الذي يعد من أجود منتجات الخزف الإسلامي، بالإضافة إلى بعض المسكوكات والزجاج والمجامر المصنوعة من الحجر الصابوني، وبعض النصوص الكتابية. صيد الذاكرة لكاتب (ص216). وأطلال المابيات لازالت واضحة المعالم وشاهدة على الاهتمام بتخطيط المدن الإسلامية القديمة، ونظراً لوقوعها بمنطقة أثرية هامة جداً مثل الحجر والخريبة والعلا؛ لذا فإن تسيير الرحلات الطلابية إليها أصبح مطلباً ملحّاً لتطلع الأجيال على التاريخ المجيد للحضارة الإسلامية.