كنت في الثالثة عشرة من عمري حينما ضبطتْ معلمتي في المدرسة إحدى روايات عبير الرومانسية نصف مدسوسة في درج طاولتي الدراسية وأنا أحاول اختلاس بضعة كلمات منها أشبع بها فضولي لإنهائها!
وكان من سوء حظي أن تضبطني برواية رومانسية وأنا التي اعتدتُ قراءة الروايات البولسية أو قصص الجرائم والغموض والأكشن من قبل فقط دون غيرها،وغضبت معلمتي لدرجة أن صادرتْ مني الرواية التي لم أكن أملكها وكانت مستعارة من صديقة لي، حيث اعتادت صاحباتي أن يجلبن لي أي رواية أو قصص تحويها منازلهن، قرأنها أم لم يقرأنها، لِما عُرف عني من عشقي الشديد ونهمي لقراءة الروايات.
ووقعتُ في مأزق استعادة الرواية لإرجاعها لصديقتي، وكنتُ ألمح الهمّ والتأنيب مرسومًا على وجهها في المقعد بجواري وبالطبع ادّعيتُ أنها لي كي لا أورطها وهي لا ذنب لها، وهكذا بعد الحصة استجمعت شجاعتي وذهبت لأحدث المعلمة، أخبرتها أنها رواية عبير الأولى التي أقرأها لكنها لن تكون قطعًا الأخيرة لأنني وببساطة التهم أي رواية تقع في يدي وأجدني أطوي فجأة آخر صفحة منها وأنا لا أعلم حتى متى بدأت، لكنني أقطع عليها عهدًا أن أمكث سنوات دون قراءة رواية أخرى لعبير فقط إذا هي أعادت لي روايتي، ووجدت معلمتي تفكر ثم تخرج بعد برُهة يسيرة الرواية من حقيبتها وتعيدها لي، وسلمتُها بعد رحيلها إلى الصديقة وأنا أتنفس الصعداء.
وهكذا مضت سنوات وأنا أراقب الأغلفة الرومانسية لسلسلتي عبير وأحلام على الأرفف في كل المكتبات التي أذهب لاقتناء الكتب منها دون أن أجرؤ على شراء واحدة، وبعد سنوات بدأت في اقتنائها إليكترونيًا ووجدت أنني قد أستطيع التحرر من عهدي الآن وشرعتُ أخيرًا في قراءة الكنز المحرم.
روايات مؤسستي عبير وأحلام هي سلسلة طويلة شيقة من الروايات القصيرة التي تتنفس رومانسية وطبيعة وأشواقًا وعاطفة، وكنت أندهش في كل مرة أقرأ اسمًا مختلفًا على غلاف الرواية لمؤلفتها، حيث خامرني دومًا شعور أن الكاتب واحد، فكل القصص تتشابه كثيرًا، وكلها تدور حول الفتاة النحيلة الرشيقة المرهفة كعصفور وفتاها الممشوق القوام القوي الأسمر، ودائمًا لابد أن يكون أسمر البشرة وكأن البياض في الرجال لا سمح الله عيب!!
لكن في حين كانت بعض القصص سطحية سخيفة ولغتها ساذجة مبتدئة كان البعض الآخر عميق ومتخم بالأحداث والحوارات سلسلة شيقة وتنبئ عن ثقافة حقيقية وملكة كتابية جميلة للغاية، ووقعت في يدي رواية بعنوان «الشريدة» أعدها هي أجمل السلسلتين معًا على الإطلاق، حيث كانت الفتاة شخصا حقيقيا من لحم ودم، بشعر أسود قصير وعينين حائرتين لامعتين وذاكرة مفقودة، وكان البطل يكذّب فقدانها لذاكرتها في أول الحكاية، نحيل أسمر عصبي مرهق المزاج ذو خلفية طفولية معقدة صنعت منه إنسانًا شكاكًا متعبًا لا يطيق الخديعة والكذب، هذا بالطبع قبل أن يكتشف في الفتاة التي أحبها كل الصدق والبساطة ومحاولات فرارها من أي إثم قد يلتصق بها، وبقي مشهد استعادتها لذاكرتها عالقًا في ذهني طيلة سنوات ما بعد قراءتي لها، حيث ينزلق المعطف المخملي الأحمر من بين يديها ساقطًا وتجثو على ركبتيها وقد دهمتها لحظة التذكر بغتة مصحوبة بالذكرى المريرة التي أدت لفقدانها من الأساس، وكيف جرت الدموع على وجهها قبل أن يكتمل استيعابها والمطر يغسل كليهما من فوقهما، وكانت الرواية منذ الصفحة الأولى مشوقة حسنة السبك أمينة في نقل مشاعر أبطالها والحوارات مكتوبة بدقة وبكثير من الواقعية.
وصارت روايات عبير وأحلام نوعًا من القراءة الخفيفة السهلة التي أمارسها كلما خبا شغفي للقراءة أو عجزت عن إيجاد مادة جيدة أطالعها، ولمّا خالطت على الإنترنت مجتمعات الروايات والقراءة اكتشفت أنني لست الوحيدة في تلك العادة، غير أنني لمّا كبرتُ تذكرت معلمتي وأمّنتُ على موقفها الذي اتخذته، حيث أجد أن روايات عبير وأحلام برغم كونها خالية من البذاءة التي تعج بها الكثير غيرها من الروايات إلا أنها لا تصلح للأطفال كذلك، وبرغم أنني وفيتُ بالعهد الذي قطعته وشارفتُ على الثلاثين من عمري إلا أنني ما عدت أستطيع قراءة أي من هاتين السلسلتين إلا وشبح وجه معلمتي العابس يطلّ عليّ دومًا من فوق رأسي!