أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: لِلْعلماء خلافٌ في معنى الْجُنَّةِ؛ التي وردت في قول رسول الله في الحديث الصحيح: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ؛ وإذا كان أحَدُكم صائماً فَلا يَرْفُثْ وَلا يَجْهَلْ، فإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ).. رواه أبو هريرة في سنن أبي داوود رضي الله عنهما؛ فالمعنى الظاهريُّ الذي لا أُرَجِّحُ غيرَه: أنَّ المراد بالجُنَّة الوقاية من النَّار؛ لأنَّ الصوم طاعةٌ لله، ومِنْ ثِمَارِ الطاعة النجاةُ من النَّار؛ وفي الصيامِ خصوصُ معنى يجعله جُنَّة كما سيأتي من كلام (ابن العربي) رحمه الله تعالى؛ وهذا تفسيرٌ بالنتيجة، ومن فسَّر بالوقاية من المعاصي فسَّر بالسبب؛ لأنَّ المعاصي مِن أسباب دخولِ النَّار لِعُصاةِ المؤمنين إلى أجِلٍ، وليس من عذابِ الكُفار المخلدين في النار.
قال أبو عبدالرحمن: التفسيرُ بالوقايةِ من النَّار ذو مَعْنَيَيْن: أولهما أنَّه وردَ النصُّ بمتعلَّقِ الوقاية بإطلاقٍ؛ ولو لم يردْ النص: لكان الأصل الوقايةُ من النار؛ لأنَّ ذلك من ثمار الطاعات؛ ولأنَّ الجُنَّة بمعنى الوقاية، والأصلُ في التقوى شرعاً إتِّقاء عذابِ النار، وأمَّا اتقاء الله سبحانه وتعالى: فهو الْوِقايَةُ الْمُؤَكَّدةُ مِن غَضبِه وعِقَابِه في الدنيا والآخرة؛ وذلك بفعل الطاعات وترك المعاصي.. وثانيهما أنَّ الصوم طاعةٌ في نَفْسِه، والطاعةُ في نَفْسِها وقايةٌ من النار، وتركُ المعصيةِ وقايةٌ من النار؛ فالتَّوقِّي من النار يكون بهما معاً.. ومَن فسَّر الجُنَّة بتركِ المعاصي وحَسب فقد فسَّر بجزء المعنى، وفسَّر بغير مذكور في السياق؛ وهو ترك المعاصي؛ إذْ المذكور فِعْلُ الطاعة؛ وهو الصوم.. ولم يذكر (الخطَّابي) غيرَ هذين المعنيين في كتابِه (أعلام الحديث) 2/939، ومثله (الكرماني) في كتابه (شرح صحيح البخاري) 8/78، و(الشرقاوي) في كتابه (فتح المبدي) 2/144رحمهم الله تعالى.
قال أبو عبدالرحمن: وهذا الترجيح إنما هو بالنسبة لحديث: (الصومُ جُنَّة)؛ وأما حديث (فإنَّه لهُ وِجَاء)؛ فالأصلُ فيه ترْك الشهوات المحرَّمة؛ والحديثُ دعوةٌ للشباب العاجزين عن الحصول على الزوجة بالتَّعَفُّفِ بالصيِّام.. وأما الآيةُ الكريمة: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (153) سورة الأنعام [سورة البقرة/183]؛ فالمرادُ تحصيل مَلَكَةِ التقوى الجامعة بين فعل الطاعات وترك المعاصي؛ وإذنْ فَلِكلِّ نصٍّ دلالةُ السياق الخاصة به.. وقد لاحظ التلازم بين الأمرين (صِدِّيق حسن خان) رحمه الله تعالى؛ فقال: «إذا كَفَّ نفسَه عن المعاصي في الدنيا كان سِتراً له من النَّار».. انظر كتابه (عون الباري) 3/368.. ومثله (عبدالله الشرقاوي) قال: «فلما كَفَّ الصائمُ نفسه عن المعاصي في الدنيا كان ستراً له من النار؛ فكفَّتْ عنه في الآخرة».. انظر كتابه (فتح المبدي شرح مختصر الزَبِيْدي لصحيح البخاري) 2/144.. وقد جَزَمَ الحافظ (ابن عبدالبر) وغيره بهذا الذي قررته؛ وهو أنَّ متعلَّق لجُنَّةِ النارُ؛ أي أنَّ الصومَ سِتْرٌ للصائمِ، ووقايةٌ من النار، وعلَّل ذلك (ابن العربي) بأنَّ النار محفوفةٌ بالشهوات، والصائمُ يترك شهواته من أجل ربه؛ فيكون تركُ الشهوات جُنَّة؛ ولهذا رجَّح الإمام الحافظ (ابن عبدالبر) رحمهم الله تعالى جميعاً الصيامَ على غيره من العبادات، وقال: ((حَسْبُك بكونِ الصيامِ جُنَّةً من النار فضلاً)).. وذهب الجمهور إلى ترجيح الصلاة.
قال أبو عبدالرحمن: الأدلةُ قاطعةٌ على رجحان الصلاة؛ ولكنَّ هذا لا يعني رُجحان بعض العبادات من وجهٍ دون بقيةِ الوجوهِ كالصيام؛ ويترجح بأمرين: أحدهما كونُه جُنَّةً، وثانيهما ظهورُ الإخلاصِ فيه كما في قوله صلى الله عليه وسلم عن ربه سبحانه وتعالى: (الصيامُ لي وأنا أجزي به)، وتَتَرَجَّح الصلاة بوجوهٍ أكثر.. ويؤيدُ قيدَ إطلاقِ الجُنَّة بالوقاية من النار رواياتٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذَكرَتْ هذا القيدَ؛ فعند (سعيد بن منصور) من حديث أبي هريرة رضي الله عنهما: قال صلى الله عليه وسلم: (جُنَّة من النار)، ومثلُه عند (النَّسائي) من حديث عائشة، وعند الإمام (أحمد) من حديث أبي هريرة: (جُنَّة وحصن حصين من النار).. وذهب آخرون كـ (ابن الأثير) في كتابِه (النهايةُ في غريب الحديث) رضي الله عنهم جميعاً إلى أنَّ الصيام جُنَّة؛ أي وقايةٌ مما يؤْذِي الصائم من الشهوات.. وذهبت طائفة ثالثة إلى أنه جُنَّة بمعنى أنْ تُتَّخَذَ له الجُنةُ؛ وهي السُّتْرَ؛ وإلى هذا منحى كلام (القرطبي) إذْ قال: جُنَّة سترة: يعني بِحسبِ مشروعيتِه؛ فينبغي للصائم أنْ يصونه مما يفسده وينقص ثوابه.. وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث.. إلخ)).. وذكر (ابن حجر) قولاً رابعاً؛ فقال: ((ويصح أنْ يُراد أنه سِتْرَةٌ بحسب فائدتِه؛ وهي إضعافُ شهوات النفس؛ وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم بوحيٍ من عند ربه سبحانه وتعالى: ((يدع شهوته من أجلي))، وذكر قولاً خامساً؛ فقال: ((ويصحُّ أنْ يراد أنه سترة بحسب ما يحصل من الثواب وتضعيف الحسنات)).. والقول السادس العموم وإليه ذهب الإمام (النووي) رحم الله جميعَهم.. ومن فسَّر الحديثَ بالوقاية من الشهوات المؤذية للصائم: فلا يُنْكَرُ عليه أنَّ ذلك من ثمار الصيام المباركة؛ إلا أنَّ هذا المعنى الصحيحَ غيرُ مقصودٍ في تلك النصوص؛ لأنَّ الصوم عبادة؛ والأصل ربْطُ أحكام العبادات بمسائل العذاب والثواب حتى يقومَ دليلٌ على أنَّ المراد مصلحة دنيوية؛ ولأنَّ الدليل الخارجيِّ الدالِّ على أنَّ المراد الوقايةُ من العذاب: شَهِدَ لدليلِ الأصل.. وأما الرأيُ الثالث؛ فهو بخلافِ النص؛ لأنَّ النص هنا لم يرد بجنَّةٍ تكون للصيام؛ وإنما ورد بكون الصيام جنة في نفسه.. والقولُ الرابع صحيح؛ وهو أنَّ الصوم يُضْعف الشهوة، إلا أنَّ هذا المعنى الصحيح غير مرادٍ لهذا النص لما أسلفته..القولُ الخامس ليس هو في حقيقته احتمالاً خامساً لمعنى الحديث، ولا ينافي أنَّ الصيامَ جنةٌ من النار؛ وإنما هو زيادة إيضاح لمعنى كونه جنة من النار.
قال أبو عبدالرحمن: الصيامُ في نفسِه جُنَّة من النار؛ وأما الثواب، ومضاعفةُ الحسنات: فثمرةُ ذلك في الْجَنَّة حيث تتفاوت المنازل؛ وأما الأخذُ بعموم هذه الأقوال فصحيحٌ بالنسبة إلى النظر في آثار الصيام مجرداً من سياق هذا الحديث الشريف.. وأما المرادُ بالنسبة لهذا الحديث: فهو الوقايةُ من النار؛ ويلزم عن الوقاية من النار: توقِّي المعاصي، وتحقيقُ ملكةِ التقوى؛ ويشهدُ لذلك قولُ الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[سورة البقرة/183].. قال (ابن العربي): «فيه ثلاثةُ أقوال: الأول لعلكم تتقون ما حَرُمَ عليكم فِعْلُه؛ والثاني لعلكم تَضْعَفُون بَدَنِيّْاً؛ فَتَتَقَّوْن؛ فإنه كلما قلَّ الأكل ضعفتْ الشهوة، وكلما ضعفت الشهوة قلت المعاصي.. والثالث لعلكم تتقون ما فعلَهُ مَن كان قبلكم؛ ولقد رُوِي أنَّ النصارى بدَّلَتْه بِتَأْجيلهم الصيامَ إلى الزمان المعتدِل، وزادت فيه كفارةَ عشرة أيام؛ وكلها صحيحٌ ومراد بالآية إلا أنَّ الأول والثالث حقيقة، والثاني مجازٌ حسن، والأول والثاني معصيةٌ والثالث كفر» انظر كتابه (أحكام القرآن) 1/75.
قال أبو عبدالرحمن: المرادُ تحقيقُ ملكةِ التقوى التي يكون بها خوفُ الله في السر والعلن استشعاراً لرقابته بفعل الطاعات وترك المحظورات؛ والدليل على ذلك أنَّ الآية خبرٌ عن شرع الله بكتابة الصيام؛ فكان قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} سورة البقرة (183) متعلقاً بحكمة المشروعية سواء أَجعلنا (لعلَّ) على بابها؛ وهو التَّرجِي، أم جعلناها تعليلاً بمعنى (كي)؛ وأمَّا شريعةُ اللهِ لبني إسرائيل إذا لَمْ يَتَبَيَّنُ برهانٌ على أنها خاصَّةٌ بهم؛ ولَمْ يَقم أيضاً برهانٌ على أنها لَمْ تكُنْ من أكاذِيبهم وافتراءاتِهم، ولم يَقُمْ برهانٌ على أنها بخلاف شريعتِنا مع عِلْمِنا بأنَّ الله جعل لكلِّ أُمَّةٍ شِرْعَةً ومنهاجاً: فإنها شريعةٌ لنا أيضاً؛ ولهذا ندب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى صيام يوم عاشوراء؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ما رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَحَرَّى صيامَ يومٍ فَضَّلَهُ على غَيْرِه إلا هذا اليومَ يَوْمَ عَاشُورَاء وهذا الشهرَ يعني شهرَ رمضان).. رواه البخاري 1867، وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: (قَدِمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ فرأَى اليهودَ تَصومُ يومَ عاشوراءَ؛ فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يومٌ صالحٌ، هذا يومٌ نجَّى اللهَ بني إسرائيل من عدوِّهِمْ فصامَهُ موسى؛ فقال صلى الله عليه وسلم: فأنا أَحَقُّ بموسى مِنْكُمْ فصَامَهُ وأمرَ بِصِيَامِهِ).. رواه البخاري 1865.
قال أبو عبدالرحمن: مُجْمَلُ الأقوال في معنى الجُنَّة نقلته من كتاب (فتح الباري)، ولا هجرة بعد الفتح.. انظر (فتح الباري) 4/125؛ وإلى لقاء قريب إنْ شاء الله تعالى، والله المُستعانُ.
***
كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -