د. محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح
بدأ عام دراسي وكنتُ في المستوى السادس في كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ومرَّ يوم السبت بمحاضراته وأساتذته، ثم جاء يوم الأحد وانتهت المحاضرة الأولى فالثانية، وجاءت الفسحة وبعض الزملاء يتحدثون في أماكنهم، وبعضهم قصد مكان الإفطار.. ثم بدأت المحاضرة الثالثة اجتمع أكثر الطلاب في قاعة التدريس، فدخل أستاذ مادة «التربية» شيخ وقور، مبحوح الصوت، نحيل الجسد، حسن المنظر والثياب، تراه متأنياً في خطوه ونظرته، سلَّم ورحَّب وربما قال: أهلاً بالمشايخ الشباب أهل العلم والتربية! لم يَعْجلْ في تحضير الطلاب بل بادر بالسؤال: لماذا ندرس مادة التربية أو مقرر التربية؟ كأن السؤال لم يستوعب في المرة الأولى! فأعاده، هل من مجيب، لا أحد! ثم قال: أليس القرآن يربينا؟ أليست السنة تهذبنا؟ أليس منهج الصحابة ومن تبعهم بإحسان يكفي في السلوك والتربية عن غيرهم؟ الجواب: بلى.
إذاً أنتم لستم بحاجة للتربية إذا قمتم بذلك!! بل المجتمع بحاجة إليكم أن تبثوا فيه دين الله ومنهج سلفكم الصالح.
رجع إلى الطاولة المعدة للأساتذة، وبدأ يحضر الطلاب.
وترك أسئلة تدور في أذهان بعضنا، هل لن ندرس مقرر التربية؟ هل يريد أن يكون العمل تطبيقاً؟ انتهى التحضير وقد حفظ بعض الأسماء، فقال: فلان ما رأيك؟ وفلان ما رأيك؟ هل لأحد إضافة..
تحدَّث عن تربية القلب وتربية الروح، وبثَّ نصائح كثيرة خلال فصل دراسي كامل، مما أذكر من كلامه في قاعات الدراسة أنه قال: الجماعات الإسلامية المحدثة بمختلف فِرقِها جاءت لما هو مضيَّق في الشريعة فوسَّعته، ولما هو موسَّع فضيَّقته! أتدرون ما هو المضيَّق وما هو الموسع؟ المضيق التوحيد والعقيدة والمنهج، والموسع ما يقبل النظر والاجتهاد من أمور الشريعة، فكم ضيقوا على الناس في اجتهادات وحملوهم عليها، وكان يسع الاختلاف فيها.
وتجد كثيراً منهم في المقابل في موضوع المعتقد لا يبالون به، ولا يرفعون رأساً إليه ما دام المخالف لهم في المعتقد لا يعادي حزبهم، ولا يحذر من بدعهم والانحراف لدى جماعتهم.
انتهى المستوى السادس، وكادت تنعدم رؤيتي له، ثم تهيأت أسباب لرؤيته، والجلوس إليه، فكنتُ أزوره ويتفضل علي بالزيارة، بل ربما خرج من الجامعة ظهراً، واتصل بالهاتف، ليستأذن في الزيارة! ثم يأتي ويتناول من غدائي بلا كُلفة منه ولا تكلُّف مني، وكان يفرح إذا رأى مرقة الخضار في وجبة الأكل، وربما اكتفينا بها عن إصلاح غيرها، أذكر أني وضعتُ بين يديه الفاكهة، وكان منها فاكهة «المانجو» وعرضت عليه أكلها إذ شكلها يوحي بلذتها، فيقول: يا شيخ محمد هذه يتطلب أكلها خلع الثوب!
سألني مرة: كيف ننكر على من يرفع صوت الموسيقى في الأماكن العامة، خاصة إذا كنتَ واقفاً عند الإشارة؟ فقلت: ما المسؤول بأعلم من السائل، فقال رحمه الله: لا أزيد عن أن أقول: لا إله إلا الله! رافعاً السبابة إلى السماء، وأنظر إلى فاعلِ ذلك ثم أنظر إلى السماء، فما أن يرى ذلك وربما كانت النافذة مفتوحة فيسمع لفظ الشهادة فيبادر بإغلاقه!
مِن المُحْرِزِينَ المَجْدَ يَوْمَ رِهانِه
سَبُوقٌ إِلى الغاياتِ غَيرُ مُسَبَّقِ
كان إذا رأى المسبل لثوبه وكانت الفرصة مهيأة قال له: لعل الخياط غشَّك! فيتأمل المنصوح كيف وقع عليه غش؟! حتى يخبره عن الإسبال.
اتصلتُ به: أسأله عن مكتبة آبائه إذ حوت على مخطوطات كثيرة، فأخبرني أنه تم تسليمها لدارة الملك عبدالعزيز، لعلها تكون في مكان ينتفع بها الناس.
ولا غرابة في كون المخطوطات قد توارثها آباؤه رحمهم الله، فبيتهم بيت علم، وهم أهل الإمامة والخطابة والتدريس في جامع أوثيثية لعقود من الزمان، فبيتهم تسلسل فيه الفضل ومحبة العلم.
وفيه نشأ الشيخ المربي الفاضل الكريم عبدالله بن محمد بن عبدالله بن عبدالمحسن بن محمد الزامل رحمه الله وغفر له.
ولد الشيخ عام 1365هـ، درس الابتدائية والمتوسطة والثانوية في مدينة الرياض، ولم تسنح له الفرصة أن يلتحق بكلية الشريعة في الرياض، فيمَّم وجهه إلى الجامعة الإسلامية، وقد فات وقت القبول في الجامعة، واعتذر إليه سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله بفوات موعد التقديم والقبول، فقال الشيخ إبراهيم الحصين رحمه الله: يا شيخ عبدالعزيز! هذا ولد الشيخ محمد وهم أهل العلم والخطابة في أوثيثية، فأخشى إن لم نقبله تلحقنا «حُوبَة»! فيسَّر الله قبوله في الجامعة، وتخرج فيها عام 1395هـ.
ثم واصل دراسته في الدبلومات في تخصص التربية في جامعة الملك سعود، وجامعة عين شمس، وجامعة أمريكية في ولاية إنديانا، وكان يجيد اللغة الانجليزية، ولم يكن يظهر ذلك البتة، وكثير ممن يعرفونه لا يظنون أن الشيخ يعرف غير اللغة العربية، وكان مهتماً بالفصحى نطقاً وتعليماً، وله اهتمام بلفت نظر المتكلم إليها إن كان منسوباً للعلم في أن ينتبه للفظه وحرفه حتى أثَّر في كثير ممن حوله رحمه الله.
كان صبوراً متحملاً بل كان قدوة في الصبر، فقد توفي له ثلاثة من الولد، كما أصابته أمراض كثيرة على ضعف جسده، فكان مثالاً في الصبر، وكان يوصي بالصبر في الدعوة إلى الله خاصة، وأن الصابر سيجد حلاوة صبره بفضل الله.
دعوتُه مرة ليلقي محاضرة ويعقد لقاءات في سدير، فاستجاب مباشرة بلا تأخر، والتقى بشباب في مرحلة المتوسطة والثانوية، فكان حديثه سهلاً ممتنعاً في التخاطب معهم على ما هم فيه من مستوى.
ثم التقى مع بعض طلاب العلم فكان المجلس مختلفاً طرحاً ومضموناً.
أُصيب في الجهاز التنفسي، ولحقه تعب ومشقة حتى ذهب للمستشفى، فتقرر تنويمه في العناية المركزة، وأغمي عليه عدة أيام أفاق بعدها، وكان بعض الممرضين من دول أخرى على غير الإسلام، فكان يدعوهم إلى الإسلام، ويبيِّن لهم محاسنه بالكتابة لهم؛ إذ الكلام يصعب عليه.
جاء وباء كورونا فعمَّ العالم ما عرفه الجميع، فضعف التواصل وانقطع التزاور، فلم أتحسس للشيخ خبراً حتى وصلتني رسالة يوم الجمعة في الرابع والعشرين من شهر ذي الحجة لعام 1441من جواله رحمه الله، بعثها ابنه وفيها (أن شيخنا قد قبضت روحه مساء اليوم الجمعة عن عمر يناهز الخامسة والسبعين، فلا تنسوه من الدعاء والصدقة، وبعد الظهر من يوم السبت ستكون الصلاة عليه والعزاء في مقبرة النسيم اتباعاً لتوجيهات الحكومة).
وهكذا طويت صفحة مضيئة، بل نجم من نجوم التربية والتعليم، عاش رحمه الله بهدوء، ودعا إلى الله بهدوء، ومات بهدوء. فرحمه الله وعوضنا خيراً.
فقرّت عيونٌ كنت شمل جفونها
وجادت بحزنٍ بالدِّماء عيون
وبعد التخرج من كلية الشريعة يسر الله لي الدراسة بقسم الفقه المقارن في المعهد العالي للقضاء، فكان من رجالات المعهد الكبار شيخنا الدكتور الوقور سعود بن محمد البشر دخل علينا قاعة التدريس مسلِّماً بصوته الأجش، ثم قال بعد الترحيب: لعل بعضكم لا يعرف الأنظمة! وما المقصود بها، فهي جديدة عليه، ولعل بعضكم ربما سمع عنها ويظنها القوانين المخالفة للشريعة، هل تعلمون أن بعض الناس شككوا في ديننا وفي قسم السياسة الشرعية في المعهد؟! بل كتبوا إلى سماحة شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله سؤالاً: هل تصح إمامة الطلبة الذين تخرجوا في القسم؟! فكتب سماحة الشيخ جواباً على هذا السؤال، وقرأ علينا الشيخ سعود الجواب وفيه (إن القدح في إمامة الطلبة المذكورين والحكم بعدم صحة الصلاة خلفهم أمر لا تقره الشريعة، ولا يقره أهل العلم، وليس له أصل يرجع إليه).
رأيتُ في فعل الشيخ سعود رحمه الله هذا عدداً من الحِكَم، منها:
تفنيد الشبهة قبل ورودها، وجعل حصانة للمتلقي من الشبهة، وهذا أفضل من علاجها بعد ولوجها، وأن البداية الصادمة كفعله رحمه الله تجلب النظر فيما سيُدرس، وأن من المهمات ربط الناس بعلمائهم، فحين قرأ على الطلبة كلام سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله ربط الأمر بالكبار، فهو بتصرفه يربي الشباب على توقير العلماء، والرجوع إليهم.
كان الشيخ سعود رحمه الله يملأ مكانه علماً وعقلاً ورأياً وحكمة، طُلب لأن يكون عضواً في مجلس الشورى فاعتذر بأن مهمة التدريس أنفع له وللجيل.
طُلب لمنصب آخر فاعتذر، إذ العمل الإداري يشغل عن العلم وبيئته تعلماً وتعليماً.
كان ذا مبادرات تذكر فتشكر في توطين المدرسين في الكلية الحربية، وكذا لما صار مسؤولاً في المعهد العالي للقضاء، فقد قام في مجلس الجامعة -كما حدثني- رافعاً صوته بالمطالبة بتعيين معيدين في المعهد؛ إذ كان لا يُعيَّن وقتها أحد، إنما يستعان بمدرسين من داخل الجامعة ومن خارج البلاد، فكان كلامه فاتحة خير على المعهد جزاه الله خيراً.
قويم الرأي في نُوب الليالي
إذا ما الرأي فارقه القوام
تولى أكثر من عمادة في جامعة الإمام، وكان يسعى لخدمة الطلاب، ويحاول أن يحقق ما فيه مصلحة لهم ما دام روح النظام لا يرفضه.
لما فتحت أقسام جديدة في المعهد العالي للقضاء تقدم عدد من الطلبة للإعادة فيها، فطلب رئيس أحد الأقسام وهو الأخ الدكتور الزميل عبدالرحمن الريس حفظه الله تكوين لجنة لمقابلة المتقدمين والنظر في المستحق للقبول أو الاعتذار منه، فاقترح د. عبدالرحمن أن أكون عضوًا معه في اللجنة؛ إذ كنتُ حينها رئيسًا لقسم من الأقسام، فوافقتُ واقترحتُ أن يكون معنا الدكتور سعود البشر؛ لمكانته وخبرته، فتمت الموافقة من مجلس المعهد، وتم تحديد موعد المقابلات، فكان المتقدمون يدخلون واحدًا واحدًا، دخل أحدهم فلما عرف الشيخ سعود اسمه قال له: والدك فلان؟ قال: نعم، فرحب به كثيراً، وأثنى على والده، لا أخفيكم تضايقتُ قليلاً وخشيت أن تكون المقابلة أشبه بالمجاملة، وربما يُراعى هذا لمعرفة الشيخ بوالده، بدأت المقابلة، وكان الأعضاء الثلاثة يوجهون الأسئلة للمتقدم، وكانت البداية عند الشيخ سعود رحمه الله، انتهت المقابلة، فقلت للشيخ سعود: ما رأيكم؟ وكان في خاطري ما كان، فقال: لا تحتاج إلى رأي، لا يصلح، ونِعم به وبوالده، لكن مستواه دون المطلوب، غيرُه ممن تمت مقابلته أجود منه!
ازددتُ إكباراً للشيخ سعود رحمه الله فمحبته لوالده ومعرفته به لم تجعله يتردد لحظة واحدة في القرار، فما أحوجنا للحسنى في التعامل، والإنصاف في اتخاذ القرار، بعيداً عن مؤثرات جانبية، ومصالح شخصية.
قطف الرِّجَالُ القَوْل وَقت نَبَاته
وقطفت أَنْت القَوْل لما نوَّرا
أذكر لما قدمتُ مع والديَّ -حفظهما الله وغفر لهما- للتقديم على الدراسة في الجامعة استأجرنا شقة في حي السليمانية في الرياض، جاء يوم الجمعة فذهبت أبحث عن جامع وكنتُ أقلب نظري يمنة ويسرة أتراءى لمنارة مسجد، وجدته فدخلته وبعد مدة دخل الخطيب لم يغب عني شكله وطريقته في الخطبة، وأذكر أنها كانت عن البيع والمعاملات، ومما جعلني أتذكرها أنه رفع رأسه عن الورقة التي بين يديه قائلاً: مثاله: لو ذهب أحدنا إلى معرض العيسائي للسيارات ونحوه.. وأكمل ضرب المثال، فعجبتُ منه! فهو أول خطيب أسمعه يضرب مثلاً بهذه البساطة، وربما سبب الجذب والانتباه أن والدي -جزاه الله عني خير الجزاء- لتوه اشترى لي سيارة «هايلكس 96 غمارة واحدة» فكانت دراستي الجامعة والماجستير عليها، وبقيت عندي إلى عام 1436هـ، وعرفتُ أن هذا الخطيب هو الشيخ الدكتور سعود البشر، كان إماماً وخطيباً أكثر من ثلث قرن، وكان معلماً للعلم عقوداً من الزمن، ولد في «ليلى» في الأفلاج عام 1356هـ، وتعلم حفظ القرآن والقراءة والكتابة في الكتاتيب عند والده، ودرس عند الشيخ درعان آل حامد في المسجد كتاب التوحيد، والقواعد الأربع، وكشف الشبهات، وآداب المشي إلى الصلاة، ثم انتقل إلى جدة ودرس الابتدائية في المدرسة الوزيرية، وأصر والده بعد مجاوزته الابتدائية أن يلتحق بالمعهد العلمي بالرياض، فتخرج فيه عام 1380هـ، ثم كلية الشريعة، وبعد التخرج قدم على وظيفة بمرتب 800 ريال فكان مديراً لمدرسة في الأفلاج لمدة عام ثم تنقل من مدير إلى معلم ثم التحق معلماً في الكلية الحربية وبقي فيها عشر سنوات، وابتعث إلى مصر لدراسة الماجستير، رجع بعدها إلى الرياض، وانتقل من الكلية الحربية إلى كلية الشريعة بالرياض محاضراً، ثم سجل موضوعاً للدكتوراه في المعهد العالي للقضاء، وعيِّن عميداً لكلية الدعوة والإعلام وكان أول عميد لها، استقرت قدمه في قسم السياسة الشرعية حتى ترك العمل رحمه الله.
زار دولاً كثيرة في الدعوة إلى الله والأعمال العلمية والإغاثية، وحدثت له أحداث ومواقف، منها: أنه كان في دولة زنجبار زارهم في مقر إقامتهم في الفندق علماء وسفراء، منهم سفير لإحدى الدول العربية ومعه زوجته، قال الشيخ سعود رحمه الله: فأرادت أن تصافحني فامتنعتُ، وقلت لها: إني متوضئ! لأني أعرف أنها من بلد مذهبهم شافعي، والشافعية يرون نقض الوضوء بمس المرأة مطلقاً.
وزار الشام والتقى بالشيخ الألباني واستضافه في بيته رحمهما الله.
كان ينصح الشباب بلزوم جادة السلف الصالح، ومعرفة ما هم فيه من نعمة، كان محمود السيرة، طيب الصيت، صحبته مع الشيخ الدكتور صالح السدلان رحمهما الله إلى حوطة سدير في زيارة لشيخنا فهد بن جاسر الزكري متعه الله بالصحة والعافية، مضت مسافة السفر في وقت قصير كان حسن حديث الشيخين ولطافته مما أمضى الله به الوقت، فرحمهما الله.
توفي الشيخ سعود يوم الأحد، وصلي عليه يوم الاثنين الموافق 25-11-1442هـ، رحمه الله رحمة واسعة وجزاه عنا خير الجزاء وأوفاه.
رحب الذِّرَاع طَوِيل الباع متضح
كَأَن غرته نَار على علم
سمعتُ بشيخ كريم يعرف أحوال السحاب، ويخبرك عنها خبر العالم البصير بأنواعها وما يتعلق بها، والحقيقة أن المحرِّك الأقوى للزيارة أنه والد أستاذي وشيخي في المعهد العلمي في حوطة سدير، فقد مرض فأحببتُ زيارته مع أحد الأصدقاء، فكان بين العشاءين يستقبل من يزوره في منزل والده، إذ كان والده مقعداً، قد أقعده المرض، فدخلت عليهما، فإذا بالأب على سريره وقد جُعل إلى جهة القبلة، ولحيته الكثة قد غيرها بالحناء، وبين يديه المصحف منشور، فسرني منظره، وأحببت هيئته، وكان بجواره «راديو» فيه شوشرة! فظننتُ أن إرسال الإذاعة لا يصل إليه على الوجه المطلوب، فإذا به قد قصد ذلك، فتلك الذبذبات يتعرَّف منها على البرق وما يرتبط بالسحاب وتقدير مكان وجودها! فسأله أحد الحاضرين: يا شيخ عبدالعزيز حولنا سحاب؟ فقال: على الكويت!
ذلكم هو الشيخ: عبد العزيز بن عبدالله بن إبراهيم السويح رحمه الله، ولد بروضة سدير في صفر لعام 1337هـ، ونشأ في حجر والديه، وأخذ مبادئ العلم في الكتابة والقراءة على يد الشيخ فوزان القديري رحمه الله، وأكمل قراءة القرآن، وكان محباً للقراءة، خاصة ما يتعلق بتفسير القرآن، فقرأ تفسير ابن جرير الطبري، وتفسير ابن كثير، وتفسير البغوي رحمهم الله أكثر من مرة، وإذا سئل عن تفسير آية أتي بتفسيرها وسبب نزولها إذا كان له سبب نزول.
ولما فتحت المدرسة السعودية الابتدائية بروضة سدير عام 1369هـ رشِّح مدرساً لها عام 1374هـ، فأصبح من رواد التعليم؛ إذ تخرج على يديه أجيال من أبناء روضة سدير، ثم أحيل للتقاعد بعد بلوغ سن التقاعد، فمددت خدمته، لكفاءته وقدرته على العطاء، فواصل التدريس حتى تأريخ 1-7-1405هـ، فأمضى أكثر من ثلاثين سنة في التعليم وبث العلم رحمه الله.
وكان ينوب عن إمام جامع الروضة في إمامة المصلين إذا غاب آن ذاك الشيخ عبدالعزيز الفنتوخ رحمه الله، وكان صاحب عبادة ومن عباداته: مداومته على قراءة القرآن فيختمه كل ثلاثة أيام في غير رمضان، وفي رمضان يختم أربعين ختمة، وينشط في بعض الرمضانات فيختم ستين مرة، بلا مبالغة في ذلك، ولما ثقل بسبب المرض صار يختم ثلاثين ختمة في رمضان، وكانت المصاحف تتمزق أوراقها من كثرة القراءة، وفي كل فترة يُؤتى بمصحف جديد لصعوبة القراءة في الذي قبله، وهكذا حتى توفي رحمه الله.
وكان يحب العلم وأهله، وله مکاتبات مع بعض أهل العلم، ويحب قراءة التاريخ والأدب، كما أنه له كراريس يدون فيها ما يقع من أحداث متنوعة، وما يسمعه من فوائد وحكم.
وكان كريماً مجلسه لا يخلو من الضيوف في كل الأوقات، وكان وصولاً لرحمه عطوفاً على الأطفال، مجلسه لا يمل، فمحياه مبتسم، وكلامه حلوٌ، ولا يخلو مجلسه من فائدة علمية أو وعظية أو تاريخية أو حكمة أو طرفة.
يقول ابنه -أستاذي في المعهد العلمي- الشيخ الكريم الفاضل عبدالرحمن عن والده رحمه الله: (له معرفة جيدة بأحوال الطقس، وفصول السنة، والنجوم وأماكنها، وله معرفة دقيقة بأنواع السحب والرياح وتحركاتها، ويهتم بذلك، وكثيرًا ما تصدق توقعاته في نزول الأمطار أو جريان سيل في الوادي أو الأرض أو البلد الفلاني، ومن شدة اهتمامه بمعرفة أحوال الطقس اشترى «راديو»؛ ليسمع فيه صوت البرق ولو كان بعيداً، فهو يعرف صوت البرق من صوت الكهرب في الراديو! ويفرق بينهما ويعرف اتجاهه وقربه من بعده، وكثيراً ما ينظر إلى جهة الغرب بعد غروب الشمس، أو إلى جهة المشرق قبل شروق الشمس ليري ظل السحب البعيدة، ويسمى هذا الظل بالفتوح، وله كراريس يدون فيها أحوال الطقس والأمطار والسيول، كما أن له معرفة بأسماء أودية وشعاب وجبال وكهوف وسهول روضة سدير وما حولها، وله معرفة بأنواع وأسماء أشجار ونباتات هذه الأودية، كما أن له معرفة بأوقات غرس النخل والأشجار، وأوقات بذر بعض النباتات إذ كان مزارعاً، وله معرفة بأماكن وجود الماء استدلالاً عليه ببعض النباتات والأشجار).
كان رحمه الله أحد أعضاء لجنة مقياس منسوب مياه السيول والأمطار في وادي روضة سدير.
أصيب رحمه الله بجلطة فلازم الفراش عشر سنوات جعلها الله طهوراً له ورفعة في درجاته، ولم تعقه عن العبادة وهو على فراشه، حتى جاء اليوم الذي توفي فيه 4-7-1424هـ، وصلي عليه في روضة سدير ودفن في مقبرتها رحمه الله وغفر له.
وَبَارك الله فِي الأَرْض الَّتِي ضَمِنَت
أوصاله وسقاها باكر الدِّيَم
وعلى ذكر روضة سدير فقد تعرفتُ على رجل من رجالاتها، وفاضل من فضلائها، وكريم من كرمائها، هو الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن إبراهيم العمر رحمه الله، فقد ولد فيها عام (1341هـ) تقريباً، وعاش في كنف والديه، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة والأصول الثلاثة في التوحيد واشتغل مع والده وأخيه بمهنة الزراعة، ولاسيما زراعة النخيل التي كانت مهنة كثير من أهل بلدته.
تزوج بامرأة صالحة هي موضي بنت محمد العنيق رحمها الله، وقد كانت لها ابنة من زوج آخر توفي عنها، فقام رحمه الله برعاية هذه الابنة وتربيتها وكأنها ابنة له إلى أن أصيبت بمرض وتوفيت وعمرها خمس سنوات، فكانت زوجته تذكر حسن رعايته لها وتدعو له، فأسأل الله أن يكون داخلاً في قوله صلى الله عليه وسلم (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين).
فقرّت عيونٌ كنتَ شمل جفونها
وجادت بحزنٍ بالدماء عيون
انتقل إلى الرياض 1365هـ مع أمه وأهله وأخيه عبد الله طلبًا للمعيشة؛ إذ توفي والده قبل ذلك بسنة، فاشتغل في حرفة البناء فترة قصيرة ثم عمل في المطار ثم في شركة الكهرباء في بدايات تأسيسها واستمر فيها فترة طويلة إلى سن التقاعد ثم عمل بعد ذلك في وزارة المعارف (سابقًا) مؤذناً في المصلى الرئيس للوزارة.
كان رحمه الله حريصًا أشد الحرص على الصلاة والمحافظة عليها، ومن محبته للصلاة وتعلُّقه بالمسجد تولى الأذان في مسجد صلاح الدين بحي الواحة عام (1407هـ)، واستمر أكثر من خمسة وعشرين عاماً، وقد كان ملتزمًا بأوقات الصلوات، وكان يسأل أولاده أحيانًا كم وقت أذان الفجر؟ فيقولون: الساعة الرابعة إلا ربعًا فيقول: لا! بل ثلاث وست أربعين دقيقة اعتمادًا على ورقة تقويم أم القرى التي كان يضعها في جيبه رحمه الله.
ومما يذكر من شدة حرصه أنه على كبر سنه يذهب مبكرًا إلى المسجد قبل وقت الفجر بأكثر من ساعة، فربما أذَّن أحيانًا قبل دخول الوقت بساعة؛ لضعف بصره عند نظره إلى ساعة يده.
وحاله رحمه الله مع مسجده لا أنه مؤذن يقوم بوظيفته! بل جعل المسجد كأحد أبنائه في الرعاية والاهتمام وتوفير حاجاته وسد نواقصه، ويتولى فتحه وإغلاقه عند عدم وجود الخادم، على كبر سنه، وقد أحبه جماعة مسجده الصغير منهم والكبير لما رأوا من خلقه ولطفه واهتمامه.
والنَّاسُ مُشْتَبِهُونَ فِي إيرادِهِمْ
وتَفَاضُلُ الأَقْوامِ فِي الإصْدارِ
ومن تعلقه رحمه الله بالمساجد ومحبته لبيوت الله عز وجل قام ببناء مساجد في عدد من الدول منها: الهند، والفلبين، وأفغانستان، وباكستان وغيرها جعلها الله في ميزان حسناته، وبيوتًا له في الجنة.
كان وصولًا لرحمه، فيعود مرضاهم، ويواسي محتاجهم ومصابهم، وكان حريصاً على المناسبات العائلية لا يتخلف إلا لظرف شديد، ولا يرضى أن يتخلف أحد أولاده عن الاجتماع الشهري، وكان رحمه الله يتحامل على نفسه حرصًا على صلة رحمه حتى مع مرضه وكبر سنه.
المرءُ يُعْرفُ في جميل خصالهِ
ويعزُّ عند مقالهِ وفعالهِ
وكان كريماً فاتحاً باب منزله للضيوف، وكان يحب أن آتيه، فإذا تأخرتُ عليه بالزيارة عاتبني عتاب المحب، وكان صوته يرتفع في الحديث حتى يُسمع من داخل البيت، وربما ذكرتُ له بعض ما مضى من شعر وقصص أدبية وتأريخية وبعض اللطائف، فيضحك كثيراً حتى تقول زوجته رحمها الله مخاطبة بعض أولادها: أكيد هذا الفريح! فوالدكم يحب زيارته.
جليسهم لَيْسَ يرْوى من حَدِيثهم
يَوْمًا وَبَعض حَدِيث الْقَوْم مملول
وحدثني عن بعض الوقائع التاريخية في سدير، فقلت له: هذا مختلف عما ذكره ابن بشر رحمه الله في تاريخه قليلاً، فيسند لي روايته عمن حضرها.
وكان رحمه الله بشوشًا لين الجانب مع الجميع، محبًا للصدقة والإحسان للفقراء والمساكين، كما كان هميماً لا يحب تأجيل عمله إلى الغد.
كان يحب أن ينقل كل خير للجيل الذي بعده، ويجتهد في ذلك.
حدثني ابنه الشيخ الدكتور عمر أنه سأل والديه عن معنى قوله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} فقال والده رحمه الله: أثقالها هي الكنوز، وقالت والدته رحمها الله: الأموات، فإذا هما قولان لأهل العلم! فأعجب من جوابهما رغم عدم دراستهما في المدارس، وهذا راجع والله أعلم لكثرة سماعهما لمجالس الذكر في المساجد وبرنامج نور على الدرب عبر إذاعة القرآن الكريم.
فما أعظم الخير في بلادنا، وما أكثر طرق نشر العلم فيه، فلله الحمد والمنة، وزادنا من كل خير، وكفانا وبلادنا كل شر.
وفي آخر عمره كثرت عليه الأمراض وضعفت قواه إلى أن توفي رحمه الله في اليوم السابع من شهر شعبان لعام (1435هـ) وقد ناهز عمره (95) عاماً وأحسبه إن شاء الله ممن قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم (خيركم من طال عمره وحسن عمله).
وقد خلف ذرية طيبة، وذكرًا حسنًا.
يَعِزُّ عليَّ حين أُدير عيني
أُفتِّش في مكانك لا أراكا
فرحم الله الجميع، وجمعنا ووالدينا وأهلينا ومشايخنا ومن له حق علينا مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الفردوس.
**
- عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء