رضا إبراهيم
لقد جاء ارتكاز الثورة الصناعية الرابعة (4IR) على نفس الأسس التي قامت عليها الثورات الصناعية الثلاث، فالثورة الأولى تمثَّلت في ظهور المحرك البخاري في القرن الثامن عشر، الأمر الذي سهل الإنتاج، واعتبر بداية لتطور معظم المؤسسات والمصانع، أما في الثورة الصناعية الثانية، فقد ظهرت عمليات أخرى، جعلت من التطور الصناعي يتضخم بشكلٍ سريع.
وكان سبب هذا التضخم ظهور الكهرباء، وبداية عمل المحركات والمصانع على هذه الطاقة الجديدة، والذي بدوره أدى إلى ظهور الثورة الصناعية الثالثة في خمسينيات القرن الماضي، باختراع وتطور أجهزة علمية جديدة مثل أجهزة الحواسيب والراديو والأجهزة المنزلية، التي كانت حديثة العصر وقت ظهورها.
بينما أهم ما يميز الثورة الصناعية الرابعة، هو دمج التقنيات التي تخفي كل الفواصل بين كافة المجالات سواءً كانت (مادية ورقمية وبيولوجية)، وفي كتابه «الثورة الصناعية الرابعة» الصادر عام 2016م ذكر كلاوس شواب وهو اقتصادي ألماني ومؤسس ورئيس تنفيذي للمنتدى الاقتصادي العالمي، كيفية اختلاف طبيعة الثورة الصناعية الرابعة اختلافاً جوهرياً عن الثورات الثلاث السابقة من نواحي التقنيات، وتميزها بشكل رئيسي بالتقدم التكنولوجي، وتمتع هذه التقنيات بإمكانات كبيرة للاستمرار في توصيل مليارات من البشر إلى الويب، وتحسين كفاءة الأعمال والمؤسسات بشكل جذري، وكذلك المساعدة على تجديد البيئة الطبيعية من خلال إدارة أفضل للأصول.
وقد اعتبرت الثورة الصناعية الرابعة، فرصة سانحة للأفراد والدول والحكومات دون استثناء، وباتت سبيلاً لتحقيق مكاسب اقتصادية وثقافية واجتماعية، تعود بالنفع والرفاهية على الجميع دون استثناء، بجانب قدرة الثورة الصناعية الرابعة على تحسين الخدمات المقدمة، الأمر الذي أمكنه تشكيل أنماطاً جديدة في الحياة والمعيشة، كما سميت الثورة الصناعية الرابعة بـ(رقمنة قطاعات التصنيع) مدفوعة بالاتجاهات التطويرية، كصعود البيانات وتطور الاتصالات والتفاعل بين الفرد والآلة والتحسينات، في مجال الروبوتات والواقع المعزز وأتمتة الماكينات ... إلخ.
وبالنسبة للمملكة العربية السعودية، فقد شهدت في القرن الـ(21) عدداً من التحولات الكبيرة، كان من أهمها استقدام التكنولوجيا المتقدمة، وتطوير القطاعات الصناعية، واستندت رؤية المملكة على كيفية العمل على تبني الابتكار الرقمي، والاستفادة من أحدث ما توصلت إليه التقنية الرقمية في كافة المجالات، ولا شك في أن المملكة قطعت أطول الأشواط فيما يخص التحول الرقمي، كضرورة للخروج من الوسائل التقليدية.
وتماشياً مع رؤية 2030م، فقد حرصت الرياض على توطين التكنولوجيا لديها بكافة المجالات، وذلك بدا واضحاً عقب توقيع السعودية اتفاقية بينها وبين المنتدى الاقتصادي العالمي، لتشييد فرعاً لمركز الثورة الصناعية الرابعة للمنتدى الاقتصادي بالمملكة، كما اعتبرت تلك الاتفاقية باكورة التعاون بين المنتدى الاقتصادي العالمي وبين (مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية)، ما حفز انخراط المملكة في شبكة الثورة الصناعية الرابعة العالمية، مع العديد من الدول والتي كان من أهمها «اليابان والصين والهند»، وأتاح أيضاً فرصاً متعددة للتعاون مع الجهات الحكومية والمؤسسات العالمية والشركات الخاصة.
وكل ذلك أفرز عدة استثمارات، منها إنشاء وتمويل مصانع ساعدت كثيراً على التحول الرقمي بصورة كاملة للعمليات التصنيعية وزيادة وتيرتها، والتي نفذتها المدن الصناعية السعودية في مختلف أنحاء المملكة، تعددت فيها مصادر الدخل (غير البترولية)، وظهر جلياً حرص واضعي السياسة في المملكة، على تبني تقنيات الثورة الصناعية الرابعة، ما أدى إلى رفع الكفاءة التشغيلية للمصانع، لزيادة إنتاجيتها عبر وضع خطط تحول، لتطبيق مبادئ التميز التشغيلي وتنفيذها على عشرات المصانع، وطالما أسهمت الثورة الصناعية الرابعة وما تبعها من تغيرات رقمية في تغيير الصورة الجيوسياسية للمملكة، وأوجدت أدوات وآليات مغايرة كلياً للأدوات التقليدية، للنهوض بالأفرع المختلفة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، ففي مجال التعليم كمثال أدركت الرياض حجم التحديات العالمية المحيطة بذلك المجال المهم.
لذا عملت على تدشين برنامجاً للتحول الرقمي، ذي مجالات متعلقة بالتحول الرقمي في المجال التعليمي، ومساعدة معظم التربويين على الإلمام بتلك الثورة، وما لها من فوائد وما عليها من التزامات، حيث اشتمل ذلك على مواكبة النظام التعليمي، لمستحدثات تطبيقات الثورة الصناعية الرابعة، من خلال تطوير كافة عناصر العملية التعليمية من المناهج الدراسية، بجانب تطوير برامج إعداد المعلمين وتدريبهم أثناء الخدمة، وتزويد البيئات التعليمية بتقنيات الثورة الصناعية الرابعة، وتنمية وعي الطلاب بمتطلبات ولوازم التعلم في عصر تلك الثورة، من خلال الفعاليات التربوية وتزويد كلا الجانبين (المعلّم - المتعلّم) بأدوات الابتكار والبحث العلمي ... إلخ، وذلك للارتقاء بمهاراتهم، وبما يؤدي إلى تحقيق متطلبات وأهداف الثورة الصناعية الرابعة.
ولتيقنهم من مدى نجاح تنويع الاقتصاد عبر تسخير التقنية، أكد نفرُ من المسؤولين والخبراء وأولي الأمر السعوديين على بدء الاستثمار الرقمي، وتفعيل كافة الإمكانات لتقنيات الثورة الرابعة في مختلف القطاعات السعودية، كما شدد أولئك المسؤولون على أهمية دعم البحوث العلمية ورعاية الابتكارات، والعمل على توجيه الفرص الناشئة، بهدف وضع السعودية بين منزلة القادة العالمية في النظام التقني المتقدم، وقد اعتبر المهندس خالد الفالح وزير الاستثمار السعودي أن الابتكار هو حجر الزاوية ومفتاح النجاح، لإطلاق كافة الإمكانات الكاملة لتكنولوجيا الثورة الصناعية الرابعة، وذلك مواجهة التحديات المتمثلة في حالات التردد والتوقف عن دعم الانتقال، إلى مجتمعات تقنية متطورة.
وشدد الفالح على ضرورة الانتقال للتحول الاقتصادي المستدام للمجتمعات، لأن الرياض باتت أكثر تصميماً من ذي قبل على التحول الرقمي، كما لفت الفالح النظر إلى أن الرياض قد نجحت في تشكيل مستقبلها، من خلال تسخير التكنولوجيا لتنويع اقتصادها، لتصبح مركزاً لسلاسل التوريد بين قارات العالم، عبر الاستثمار في موقعها ومواردها، وأنها تسعى جاهدة إلى توظيف تقنيات الثورة الصناعية الرابعة، واستخدامات الذكاء الاصطناعي والأتمتة، ونُظم الروبوتات والحوسبة الكبيرة الضخمة، لدعم ذلك التوجه، وحصر كل تلك العناصر بمختلف القطاعات، وزاد الفالح في قوله بأن تكنولوجيا الثورة الصناعية الرابعة، ضاعفت من مستوى الإنتاجية، وقللت التكلفة والمخلفات على البيئة، وأسهمت في الاستدامة وتحسين جودة المنتجات.
وفي ذات الوقت، أعرب وزير الصناعة السعودي بندر الخريف، عن تفاؤله بمستوى التقنيات والابتكارات التي تشهدها البلاد، ما عزَّز مكانة السعودية، واعتبارها مركزاً إقليمياً ودولياً في قطاعات مختلفة، نظراً إلى أهمية الاستثمار في مجال الابتكار وتطوير البحث العلمي، والعمل على تشجيع القطاع الصناعي للتقنيات الناشئة، لأن القطاع الصناعي السعودي يتم حالياً إدارته من خلال إستراتيجية متكاملة، وذلك القطاع يملك رصيداً واسعاً من إمكانات التدريب والتحويل، ما مكنه من إيجاد أنسب الفرص للمستثمرين في مجال الابتكار، بهدف تحسين قدراته تقنية من أجل المستقبل.
ولسعي وزارة الصناعة والثروة المعدنية لزيادة عدد المصانع بنسبة (50) بالمائة خلال الخمس سنوات المقبلة، أملاً منها للوصول بحجم الاستثمارات الصناعية الإضافية إلى نحو (1400) مليار ريال سعودي، دشنت الوزارة (منصة صناعي)، لزيادة تبني المصانع لأفضل الممارسات العالمية بمجالات الثورة الصناعية الرابعة، وتخفيض تكاليف الإنتاج، ورفع مستوى الاعتماد على أمهر الكوادر، وزيادة القدرة التنافسية والكفاءة التشغيلية للمصانع، وعرض الفرص الاستثمارية في القطاع، وتقديم الحوافز المقدمة من جهات المنظومة بحزمة رقمية موحدة، وتحويل (4000) مصنع إلى أخرى متقدمة، سواءً من نواحي التشغيل أو التقنية، للارتقاء بمستوى النضج الرقمي، ورفع كفاءة التشغيل والقدرات الصناعية، وتعزيز تنمية الصادرات وتحسين بيئة العمل في المصانع، وتوفير وظائف نوعية جذابة، من خلال تبني تقنيات الثورة الصناعية الرابعة.
وكل ما سبق يتم من خلال الارتكاز على مبدأين أساسيين، أولها استهداف المصانع الجديدة، التي يتم تصميمها وإنشاؤها وفق معايير عالية في كفاءة التصنيع الإنتاج، وأما عن المبدأ الثاني فيتمثَّل في استهداف المصانع الموجودة حالياً، بحيث يجري تحويلها لمصانع جديدة في الشكل والمضمون، تتبنى تطبيق معايير التميز التشغيلي والتقنيات المتقدمة، حيث اعتمدت الجهات التنظيمية والرقابية على «حوكمة مرنة» والتعاون مع الأطراف المتعددة لتطوير «حوكمة مستدامة» مهيأة لمواكبة سرعة تطور تقنيات الثورة الصناعية الرابعة، وتحافظ على أهم جانب وهو «الجانب الإنساني».
كما استندت الحوكمة المرنة على وسائل للاستفادة من تطبيقات العلوم والتقنية، أهمها المعايير الصناعية الرقابية والتنظيم المشيد أساسه على استخلاص النتائج، ولأن الرياض لديها إمكانات هائلة في مجال الطاقة النظيفة، ولديها أيضاً مشروعات كبيرة في أنواع من طاقة الرياح والطاقة الشمسية، إضافة إلى وجود إمكانات بشرية من شباب ومواهب وتنوع ديمغرافي، وبجانب ذلك اهتمت السعودية بتطوير كل تلك المواهب، والعمل على تحسين مهارات السكان، بهدف تحقيق أفضل استثمار في وجه التحديات وتحقيق الأهداف المرجوة، والمملكة بذلك بات لها السبق والمسؤولية في قيادة قطار الثورة الصناعية الرابعة، ذلك القطار الذي لا يتوقف أبداً، ولا يوجد له محطات توقف أو انتظار.