سارا القرني
يُحكى أن رجالاً خرجوا من مدينتهم على متن سفينةٍ يطلبون التجارة والصيد، فبينما هم في البحر ماجت بهم السفينة ولعب بهم الموج، فغرقوا.. إلا واحداً منهم أنجاهُ اللهُ ووجدَ نفسه على شاطئ جزيرة صبيحة اليوم الثاني، قامَ الرجلُ فزعاً وغير مصدق لنجاته.. لكنه أخذ يشكر الله على نجاته ويسألهُ أن يتمّم عليه بعودته إلى أهله، مرّ يوم واثنان في الجزيرة.. فقال الرجل لا بدّ لي من بيت، فقطع أشجاراً ونخيلاً ورفع قوائم بيته وسقفه بعريش يحميه من المطر والشمس، ومرت أيامٌ وهو لا يلوي على شيءٍ سوى الصيدِ وصنع طعامه وانتظار معجزة.
في أحد الأيام وضع الرجل طعامه على النار.. وخرج يمشي في الجزيرة بحثاً عن أعواد يشعلها وكلّ ما يمكن أن يفيده في بيته، لكنه عاد وقد احترق منزله والتهمته النيران، أُسقِط في يد الرجل وأخذ يندب حظه ويسأل نفسه «لماذا يحدث معي هذا!؟» حتى استسلم للنوم متعباً من البكاء والحزن، واستيقظ على صوت بحارةٍ ينادونه من سفينة رست قُرب الجزيرة فحملوه معهم، بعد أن هدأ الرجل من فرحته سأل القبطان «كيف استدليتم عليّ»؟ قال له «رأينا دخاناً في جهةٍ من البحر فتبعناه حتى وجدناك!
وهكذا هو حال الإنسان.. يجزع لمصيبةٍ ولا يعرف الخير وراءها، تنهكه الأحداث فيندب، وتسوؤهُ الأيام فيغضب، ونسى لطف الله الخفيّ، يقول عمر بن الخطاب «لو عُرِضت الأقدار على الإنسان لاختار القدر الذي اختاره الله له»، لأنّ في أقدار الله لطفاً وفي تدبيره حكمة، والتسليم لأقدار اللهِ والإيمان بها ركنٌ من أركان الإيمان.
في صلح الحديبية.. لم يقتنع كثيرٌ من الصحابة ببنود الصلح، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلّم لا تقول له قريش شرطاً إلا وافق عليه، فخرجَ المشركون بانتصار صوريّ.. لا يعلمون أنه عليهم لا لهم، وكان الصلح في صالح المسلمين حصراً لا شيء منه يخدم أعداء الإسلام إلا صيتاً اكتسبوه بأنهم أجبروا النبيّ وأتباعه على الصلح بشروطهم وأنهم منعوهم من العمرة ذلك العام، لكن الذي حدث هو عكس ما طمع فيه المشركون.. فجاؤوا مرة تلو أخرى يريدون نقض الصلح أو تعديل بنوده لتكون العزة لله ولرسوله والمؤمنين.
ولتدبير اللهِ عجائب لا يدركها إلا من سلّم وصبر، هذه أمّ موسى تذعن لأمر اللهِ فتلقي ابنها في اليمّ، ليحرّم اللهُ عليه المراضع كي يردّه إلى أمه، وكم عزيز على قلوبنا لو تمسكنا بهِ لأوذينا، ولو تركناه لكان في تركه خيرٌ ورضى!
لا تجزعوا لمصائبكم.. وإنّ من الحزن ما هو مقبولٌ ومفهوم، وفرط الجزعِ مكروهٌ ومشؤوم، وقيل أنّ رجلاً خرجَ بأهله إلى الصحراء واعتزل الناس، فكان لهم ديكٌ يوقظهم للصلاة وكلبٌ يحرسهم وحمارٌ يحملون عليه متاعهم، وجاء ثعلبٌ فأكل الديك فحزنوا كلهم إلا الرجل، ثمّ جاءَ على الحمار فحزنوا إلا الرجل، ثمّ أصيب كلبهم من الثعلب فمات بعد ذلك.. وكلهم حزنوا إلا الرجل الذي يقول في كلّ مرة «لعلّ في الأمر خيراً»، فما هي حتى جاء الصباح ورأوا خياماً منهوبة وعلامات سبي للأهل والمال، لأنّ لصوصاً أغاروا على أهل الخيام بعد أن دلتهم عليهم أصوات حيواناتهم!
للهِ في تدبيره حكمة.. ولهُ لطفٌ خفيٌ لا تدركه العقولُ لكنه لا يغيب عن تسليم أهل العقول، فخرقُ السفينةِ أهونُ من أخذها جوراً، وإقامة الحائط خيرٌ من وقوع المال في يد جاهلٍ لم يفهم بعد، فسلّموا لله أموركم.. وإن أصابكم شيئاً تكرهونه فلعلّ في الأمر خيراً!