رقية نبيل
لا يزال الماضي البعيد يبدو كالأمس القريب بالنسبة لي، حين كانت الطفلة التي هي أنا تبلغ من عمرها ثماني سنوات وتجلس القرفصاء في وسط الحجرة القديمة وتفرش أمامها عدد الجمعة الجديد من جريدة الأهرام المصرية، بالنسبة لأسرتنا الصغيرة الكبيرة كان يوم الأربعاء مخصصًا لمجلة ماجد، تتخاطفها أيادينا الصغيرة يدًا بعد يد كلٌ بدوره الذي ينتظر حلوله بشوق منقطع النظير، أما الجمعة فكان لبريد يوم الجمعة، ولا أدري حقيقة كيف كانت طفلتي تجد كل المتعة في قراءة مشاكل الكبار لكنها هكذا كانت تفعل، كل مشكلة كانت قصة شيقة للغاية، حزينة للغاية، مؤثرة للغاية، ولاتزال بعض القصص ترافقني حتى اليوم مع إقراري بأن أكثرها لا يناسب الأطفال، وحينما كنت أنتهي اعتدتُ أن أعرج على كلمات فاروق جويدة وبرغم صغري إلا أن معاني شعره كانت تسكنني عميقًا، ربما حينها وُلدت أمنيتي بأن أكتب يومًا في الصحف وبأن أرى اسمي يذيل خاطرة صغيرة أو مقالٍ عابر.
غير أني لمّا كبرتُ كبر معي عالم مواقع التواصل الاجتماعي، وفجأة صار الكل يكتب والكل ينشر والكل يرى، ولم يعد عليك أن تنمي مهارات معينة أو قدرات كتابية خاصة أو أن تمتلك حدس الصحفي الخارق حتى تصل لأذهان الناس ولشريحة كبيرة بالفعل لجمهور غفير من القراء، بل يكفيك أن تُنشئ صفحة صغيرة وتلصق الصور وتهذر بقليل عبارات حتى يتهافت المتابعون عليك، ومع انتشار التفاهة بعينها إلا أنه لابد من الإقرار أن مواقع التواصل الاجتماعي كانت سببًا في ظهور وبروز مواهب فذة عديدة.
ولمّا عدتُ للكتابة كان بإمكاني أن أنشئ صفحة على أي موقع كغيري أبث من خلالها مقالاتي، كلماتي، آراء وثرثرات صغيرة حول الكتب والروايات، وحاولت بالفعل ولاقت المقالات نجاحًا طيبًا، لكن حلمي القديم ما فتئ يراودني، يزاورني ويؤرقني، هكذا ابتدأت رحلتي الصغيرة في نشر بضعة مقالات لي ونتف من بنات أفكاري تظهر على استحياء بين ثنايا صحف الجرائد.
إن ما أنشر حوله هي الروايات والشخصيات الأدبية وعلاقتها بنا وعلاقتنا بها، وكيف أثْرت الروايات عالمي الصغير، وكيف ترتبط السينما والشاشات العملاقة بعلاقة روحية بصفحات الأدب، ولماذا نحب هذه الرواية ولماذا لا نحبها، ولماذا تُبكينا تلك وتنفرنا هذه؟، أحاديث وآراء ونظريات وأفكار، ولم أستطع سوى مطاردة حلمي القديم بأن أصبح من أهل الصحف، ولازلتُ آمل أنها -أي الصحف الورقية- سوف تملك ذات التأثير القديم في الناس كما أثر بي بريد الجمعة ذات يوم، حتى وإن كان اليوم من خلال الشاشات لا الورق.