د.محمد بن عبدالرحمن البشر
هناك مؤرخ إغريقي الأصل عاش في ظل الدولة الإخمينية الفارسية، وولد في مدينة بودروم التابعة لتركيا في الوقت الحاضر، والواقعة في آسيا جغرافياً، اسمه هيرودوتس عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، وجاب الممالك المحيطة بمسقط رأسه في ذلك الوقت، ومنها مصر وفارس وليبيا، وسوريا، وبلاد الرافدين، والجنوب الإيطالي، وبعض الجزر المتناثرة حول بحر إيجة، وكان التنافس والصراع في زمن هذا المؤرخ قائماً بين الفرس واليونانيين، كما كانت مصر واقعة تحت سيطرة الفرس، ولا أحد يعرف عن حياته قبل بلوغه العشرين، لكن من المعلوم أنه يوناني الأصل ولد في بودروم، أو كاريا التي كانت تابعة لليونان في ذلك الوقت، وهو من أسرة ثرية وسياسية معارضة، وسجن بسبب ذلك، ثم أُبعد، ويقال إنه قام برحلاته تجنباً للمزالق السياسية، كما يرى البعض أن الدافع علمي بحت، لكونه من أسرة محبة للعلم، وحفظ لنا تأريخاً مفيداً حتى ولو اعتراه الكثير من الغرائب.
لقب هيرودوتس بأبي التاريخ، وأبي الأكاذيب، وأبي الصدق في التاريخ، وقد اختلف العلماء، والمؤرخون، والكتاب، والنقاد، والمحللون في الحكم عليه، فأما كونه لُقّب بأبي التاريخ، فذلك لأنه أول من سطر مشاهداته وما سمعه من الناس في تسعة مجلدات بأسلوب سردي، وصلنا بعضٌ منها، وما زالت هذه الطريقة متبعة حتى الآن، وهذا لايعني أنه لم يكن قبله تسطيراً للتاريخ، فقد سطر قبله المصريون، والصينيون، وغيرهم، حوليات وصلت بعضها إلينا، كما أن الكتابة على الصخور والجدران مألوفة لدى السومريين، والكنعانيين، وعرب اليمن قبل هيرودوتس بمئات السنين، وقبل ذلك كله فقد ترك لنا الأجداد رسومات على جدران الكهوف، تعبر عن حياتهم، وهذا المؤرخ هو من أطلق على مصر (هبة النيل)، وهناك من يقول إن مؤرخاً يونانياً قبله هو الذي أطلق هذا النعت، لكن هيرودوتس، أخذه منه، وعموماً فإن كون كتابه هو أقدم كتاب سردي وصل إلينا لا يعني أنه الأقدم، فربما أن هناك من سبقه، واندثر مع مرور الزمن.
أما من يرى أنه أبو الأكاذيب، فهم يرجعون ذلك إلى ما حواه كتابه من قصص غير منطقية، مثل دعواه بأن ابنة خوفو صاحب الهرم الأكبر في مصر، قد رغبت أن تبني هرماً لها فقررت برضى والدها، أو بطلب منه، أن تتيح للناس معاشرتها، وأن يكون ثمن المعاشرة الواحدة جلب حجر لبناء الهرم الخاص بها، وبهذا تم إتمام بناء الهرم الصغير الذي ظل باقياً حتى وقتنا الحاضر، وهذا أمر غير معقول، فهي ليست في حاجة لذلك، وهي ابنة الفرعون، فما عليها إلا أن تأمر فتطاع.
وأما من أطلق عليه أبو الصدق في التاريخ، فلكونه نقل ما سمع أو رأى بصدق دون تنميق، أو تهذيب، وما سطره من أحداث وقصص غير مقبولة، إنما نقلها مشافهة من أفواه العامة، والقصاصين، والتجار، وغيرهم، ولم يكن له تواصل مع القيادات، وذوي الشأن، ولهذا فقد اعترى تاريخه بعض الأساطير المبالغ فيها لحبه للتشويق والقصص الغريبة التي كان صادقاً في نقلها من العامة والتجار، ومن نافلة القول بأن محاباته لبني جلدته اليونانيين قد جعلته يتحامل على الفرس التي بينها وبينهم حرب ضروس، كما أن مصر في ذلك الوقت كانت تحت الحكم الفارسي مما جعله يرى في مصر تابعاً لفارس المتحامل عليها. ومع كل ذلك فقد يكون صادقاً في النقل، لمتن غير واقعي. فنقل ما سمع وما رأى وبصدق بعلاته دون تمحيص.
أما القصة التي نحن بصددها فهي تلك المتعلقة بمدينة ليديا والليديين، فكان يحكم تلك الدولة التي تعتبر من ممالك المدن، إحدى السلالات التي ترجع في أصلها إلى هرقل الأول، وقد استمر حكمها للمدينه أكثر من خمسمائة وخمسين سنة، وتقلد الحكم ذات يوم أحد ملوكهم الذي يحب الثراء، وحسن اللباس والتباهي الزائد، وكانت له زوجة جميلة جداً يحبها، ومبهور بجمالها، وقرر ذات يوم أن يري حارسه الشخصي زوجته عريانة تباهياً بجمالها، وحسن قوامها، ولتحقيق ذلك، أمر حارسه بأن يختبئا معاً في مكان لا تراهم الزوجة فيه عند نزعها ثيابه، وعندما تعرت لمحت الحارس وسكتت، ثم استدعته، وسألته عن سبب وجوده في الغرفة تللك الليلة ومن خطط لذلك، وخيرته بين أن تقتله، أو يبلغها عن من خطط للأمر على أن يقوم هو بقتله، وسوف تتزوجه إن كان زوجها هو المخطط، فما كان من الحارس إلا قول الحقيقة، واعترف بأن الحاكم هو صاحب الفكرة، فأمرته بقتله ففعل، ثم تزوجته، وأصبح حاكماً للبلاد، وتململ الشعب، وعارض هذا الإجراء غير المقبول، لكن الحارس الذي أصبح حاكماً اقترح بدهاء منه أن يتم سؤال عرافة معبد دفلي، وأخذ رأيها، وهي عرافة مشهورة، ومقبولة من الشعب، وأغدق عليها الذهب والفضة، فأصدرت عرافتها بأن يبقى ملكاً، لكن سوف تسترجع الأسرة السابقة الملك بعد خمسة أجيال، فكان ذلك واقعاً، ولقد قضى الملك الجديد حياته في حروب مع جيرانه.
مثل هذه القصص الشيقة، وربما غير الواقعية، دفعت بالنقاد إلى تسطير مآخذ على هذا المؤرخ، الذي لم يكن الأقدم، لكن هو كتابه الأقدم مما بقي من عاديات الدهر.