من المعروف أن فن القصة القصيرة أو الأقصوصة «القصة القصيرة جدًا» هو نوع أدبي يعتمد على سرد حكائي نثري أقصر من الرواية، لتقديم حدث أو موقف أو جزء منه في حال القصة القصيرة جدًا» ضمن مدة زمنية قصيرة وبيئة مكانية محدودة، لذا من اشتراطات هذا الفن السردي أن يكون متحداً ومنسجماً دون تشتيت أو بعثرة للحدث.
ونحن على عتبات المجموعة القصصية لمحمد علي مدخلي الجديدة «وجف كل شيء».
الاختيار الدقيق من قبل الكاتب للعنوان الذي كان رابطاً قوياً لعناوين القصص داخل المجموعة، فالعنوان يدعو للتأمل والوقوف على فحواه، ما الذي جف؟ وأين موطن الجفاف؟ فاللون الأزرق يوحي بشيء آخر؛ الارتواء رغم مظاهر الجفاف الظاهرة في بنية صورة الغلاف.
مصافحة ودية للقارئ بإهداء يجسد الامتداد بين الأصل والفرع، والارتباط بالأرض حيث الجذور تنغرس في ثبات وتمتد بكل هدوء.
عتبات أولية شيقة تثير شغف القراءة، واكتشاف جدلية الواقع والخيال في ثنايا السرد، القصة حياة كانت، يبعثها الكاتب من جديد لنعيش تفاصيلها وتدور الأسئلة حولها لتحليلها والغوص في كوامنها العميقة.
محمد علي مدخلي له أسلوبه في الكتابة يرضي غرور القاريء في الرغبة الكشف عما وراء الكلمة والرمزية البعيدة عن التلغيز، البحث عن الحدث تتجاوز حدود المتعة إلى شرفات الدهشة المذهلة، في قصة «مسغبة» «ذب الذباب عن أنفه وهو يطحن الفكرة مع نفسه» جملة قصيرة أوحت بالمكان والزمان والحالة النفسية للشخصية، ومايأتي بعدها من عبارات :»حمل معه مصباح يدويًا، لحقت به جلبة كلابٍ».. التوقيت بين ولادة الفكرة والتنفيذ، بلاغة الصورة ورسم المشهد باحترافية تبقيه في الذاكرة ويجلب المتعة في كل مرة يقرأ.
نوافذ مشرعة على حدائق الإبداع وفن القصة القصيرة والقصيرة جدًا، يفتحها لنا المبدع المدخلي ويعطي دروسًا في فن القصة القصيرة جدًا الوليد والذي مازال يبحث اعترافاً بأهليته، التكثيف المدروس بعناية تامة والذي يحتاج إلى ذهن شديد الحساسية وبخاصة التكثيف اللغوي للحدث دون اختزال للمعنى أو طمس الحدث.
يقول الأديب المصري منير عتيبة، «القصة القصيرة جدًا هي إبداع مقطر، وذكاء في الكتابة والتلقي، وعمق في الفكر، وجمال في اللغة، وهي أصعب كثيرًا في كتابتها من القصة القصيرة».
نتوقف على سور القصة التي حملت المجموعة اسمها «وجف كل شيء»
«... حتى تجف ملابسي بحثت عن أكثر الزوايا عتمة، مكان مهجور مجاور لمنزلنا...»
«لمحت شخصين يقتربان، يتلفتان يمنة ويسرة، بدا كل منهما مرتاباً، بيد أحدهما مصباح يدوي.. كان أبي»الصدمة تأتي فوق التوقع» دخلا معًا قبوًا مغلقًا، خرج أبي أولًا، قبض الثمن ثم مضى»...»ذهبت من فوري لغرفتي، أتدثر من برد ينخر عظامي» انتهى.
بالإضافة إلى تميز قصص محمد مدخلي بالوصف الدقيق الذي يحقق الدهشة ويرضي شغف القارئ في اكتشاف ماوراء الحدث، وعنصر المباغتة في إنهاء القصة»القفلة» والذي برع فيها بامتياز، تصل بالمتلقي إلى مرحلة التماهي مع الحدث أو الموقف الذي تم تصويره، ولا تنفك الصورة عن ذهن القاريء وتوصله إلى قمة الاستمتاع بالمفردة والحدث والصياغة، ولا شعوريًا تصفق له مشاعرك وتردد كلمات الإعجاب.
في قصة عجاج، تجلت قسوة الأب وجفاف معاملته لابنه في هذا المشهد:
«أخذ عجاج بين يديه، وظل يرقبني بثبات، في خضم الرعب، تبولت على نفسي»، وعلى مسافة إبداع أخرى في قصة «حيث كان الصراخ، «نظرت إليه- فمه نصف مفتوح، خيط أصفر يتدفق من شفتيه ...-»، وصف دقيق لحالة الرجل وهو في إغفاءة قصيرة فيها دلالات كثيرة عن عمره وعلامات الزمن الحادة والإرهاق من مشوار طويل في الحياة، بقدر مايثير هذا الوصف الاشمئزاز والتقزز، في المقابل شاهد إثبات على البراعة وعمق الحس الفني لدى الكاتب وقدرته على الإمساك بعوامل الجذب للقاريء.
الخيال الواسع الذي يتمتع به المدخلي عنوان رئيسي لتجلي هذا الإبداع وتميزه عن الآخرين في كتابة القصة القصيرة، أسلوب التكثيف مع الاحتفاظ بكامل هوية القصة من خلال سطور قليلة بعضها لا يتحاوز الثلاثة أسطر، دليل براعة وتمكن، في قصة «رتل من البشر في الانتظار» أخرجونا من دورنا، ووظائفنا للانخراط في المسيرة...
وانهكنا الحر والتعب والجوع...
مع برودة الشمس أطل علينا بوجه ندي ممتلئ...
تنحنح قليلاً قبل أن يخاطبنا:
-اليوم عيد ميلاد حفيدي الخامس عشر..وبهذه المناسبة قررت أن أمنحه هذا الحي بأكمله».
في هذا النص اجتمعت كل الأحاسيس والمشاعر وحدة الصراع النفسي الخفي، والصراع الظاهر المكبوت في نفوس مغلوبة على أمرها.. قراءة كل هذه الصراعات من خلال ثمانية سطور نقلت الصورة دون فراغات في الحبكة أو شح في المفردات، كل شيء متقن وملف في وشاح الإبداع.
محمد مدخلي لا يكتب هذا الواقع من فراغ، فهو ينتقي أبطال قصصه والبيئة المكانية والزمانية بصورة دقيقة ويعتني بصياغتها جيدًا، وبما أنه جزء من هذا المجتمع لا يخرج الآخرين عن نطاق هذه التجربة، فهو ابن المجتمع يؤثر ويتأثر ويحتفظ بانعكاساته في داخله، بالإضافة إلى قناعاته وثقافته العالية التي تبرز في ثنايا المفردات والأحداث.
من علامات الجودة المتناهية في كتابات محمد مدخلي سلامة لغة الكتابة من الأخطاء اللغويَّة في هذا الزمن الذي لا يلتزم فيه بعض الكتاب بهذا السياق، فعناية المؤلف باللغة تتضح حتى في العناية بكتابة العلامات الكتابية مثل الشدة والتنوين وغيره من العلامات التي توضح المعنى، مما يدعوني لتقديم مقترح بإضافة مختارات من هذه القصص المكتملة إلى المناهج الدراسية في التعليم العام، لتذوق الإبداع كما هو وتنمية اللغة الإبداعية وتطويرها لدى المبتدئين بأمثلة ونماذج قوية وسليمة، لعل صوتي يصل.
التجربة القصصية الثرية في مجموعة «وجف كل شيء» حديث المبدع لمجتمعه وذاته، رجع الصدى بقوة الكلمة وعمقها والتي تحفر لها في الذاكرة حيزاً بجودتها وتنوعها وبعضها جاوز الحدود المكانية وانفتح على عوالم أخرى «رتل من البشر في الانتظار»، «ذاك الرصيف»، «غبش» وغيرها.
مجموعة تستحق الاقتناء والدراسة من قبل المهتمين في هذا المجال، فالجماليات التي احتوتها المجموعة تفوق حدود كتابة محدودة بعدة سطور ، إلهام فكر ومفارقات مباغته لا تخطر على المخيلة، شيء من الجمال والدهشة المبهرة، فتنة القص في وحدة متكاملة تم عنونتها بـ«وجف كل شيء».
** **
- فاطمة الدوسري