الإبداع السردي في تجلياته المبدئية يكشف لنا كل الجمال والابتكار في الأدوات التي يوظفها الروائي مثل المشهد التصويري في النص، والحركة ومسمى الصوت، وملامح الوجه أثناء التصرفات الانفعالية كالبكاء، أو الدهشة، أو الصراخ، أو الهدوء، أو الشفقة.
نلمس ونقرأ كل ما ذكرته حين يكون بيننا وبين النص ثقافة مشتركة باللغة ولكن
- ماذا لو كان النص بغير لغتنا؟
كيف تصل لعواطفنا هذه الأمور وكيف
نشعر بها؟
هنا يأتي دور الترجمة.
أوصف لكم هنا الترجمة كونها أداة مهمة، حيث أنها تعد ركيزة أساسية من ركائز التواصل بين آداب الشعوب ومخرجاتهم.
الترجمة ليست أداة لنقل الكلام أو تعريب لنص الروائي أو إيصال ما ينتجه الكاتب الأوروبي أو اللاتيني أو الصيني إلينا.
إنما الترجمة كما أرى هي بعث لروح النص الخالدة الكامنة في جوفه، الترجمة وأعني الجيدة هي خلق لروح النص من جديد. إنها إعادة لروح الأشياء الكامنة في تكوينها الأول، يقول الكاتب التشيلي (أنطونيو سكارميتا):
إن عملية الكتابة والترجمة تشبه إعادة استخدام قلم الرصاص عندما ينكسر طرفه المدبب فأنت تقوم بإعادة الروح له كذلك تفعل الترجمة ويفعل الإبداع في النص الروائي فهو يقوم بإعادة الحياة له.
ولعل (سكارميتا) فعل ذلك لا شك في كتابة روايته التي صدرت بعنوان (صبر متأجج) عن حياة مواطنه وأحد أبرز شعراء عصره (بابلو نيرودا) والتي ترجمها بعد ذلك الأديب الفلسطيني الراحل (صالح علماني) إلى العربية بعنوان مختلف وهو (ساعي بريد نيرودا). (سكارميتا) أعاد الحياة لمواطنه (بابلو نيرودا) و(صالح علماني) أعاد الحياة للنص وبثَ فيه روح الجمال بترجمة العمل إلى اللغة العربية. في أثناء سماعي ذلك اللقاء الطويل للروائي التشيلي كنت قد أدركت أن الترجمة والكتابة الذاتية وجهان لعملة إبداعية واحدة ولكن لم أصل بعد لفهم براعة هذه الأداة في وصفها لكل ما تحمله لغة النص الأساسي من دلالات وسمات ومعالجة الفروقات في استخدام العناصر البلاغية مثل الاستعارة، والتشبيه، والوصف الحسي وإيصال المشاعر بأسلوب لا يقل جمالا عن أسلوب الكاتب الأساسي وتوظيف تراكيب لغوية عالية بعد ترجمة النص إلى لغة مغايرة وأجد أن أمراً كهذا هو عسير جدا في حال صعوبة فهم المترجم لمدلولات ثقافة النص المترجم منهُ للعربية ومثال ذلك:
لو أراد أحدهم أن يترجم نصاً من اللغة الإنجليزية إلى العربية ووجد هذه الجملة البسيطة أمامه: its raining cats and dogs مدلول هذه العبارة ليس بمعنى ترجمتها الحقيقي إنما هي استعارة فيقول أهل اللغة للسماء حينما تمطر بغزارة أنها تمطر قططا وكلابا وهي تدل على الكثرة هنا لا النوع فالذي ينزل بغزارة هو المطر وليست القطط والكلاب.
نجد في الروايات المترجمة الكثير من أشباه المثال السابق ولكننا لا نملك إلا أن نبقى أمامها مندهشين من براعة ما نسميه الترجمة. إن ترجمة النص الروائي قائمة على معرفة مقومات النص الأدبي لذا يعتقد الكثير أن المترجم روائياً يخلق من النص فضاء سرديا جديدا يتناص مع الفضاء الذي يخلقه الكاتب في الرواية الأساسية ومن ذلك نجد أن كثيراً من المؤسسات الثقافية ودور النشر تحرص دائما على اختيار أفضل المترجمين لنقل الأعمال الروائية الكبيرة إلى اللغة العربية ولقد قرأنا عديد الأعمال التي تُرجمت للعربية قبل أن تُعرف وحينما عُرفت نالت تلك الأعمال إعجاب الكثير من القراء نقادً ومتذوقين لجنس الرواية المدهش.
الترجمة عمل إبداعي كما هي الكتابة ولابد أن تكون جامعةً لأمور ثلاثة كما تقول الروائية المعروفة (رضوى عاشور) «الكتابة بالنسبة لي علاقة بأمور ثلاثة: علاقة بالواقع المحيط، وعلاقة باللغة ومن ورائها التراث الثقافي والأدبي المتجسدين فيها ومن خلالها، وعلاقة بحرفة الكتابة والخبرات المكتسبة في الورشة اليومية.
** **
- عبد الله العوفي