الثقافية - محمد الهلال:
ناقد مجد، مجدد في اشتغاله على السرديات والنظرية والدراسات الثقافية، متعدد الرؤى. يجيء ويذهب بقلقٍ بين الزوايا الإبداعية المختلفة، مسكون بهم البحث عن منظور جديد لقراءة المنتوج الثقافي العربي، متخصص في قراءة الأعمال السردية الدَالة والوازنة، مثل الغوص في أغوار سرديات المنفى، وتعقب السرديات البديلة، ومجاورة بلاغة الرَاوي، مواجهاً شتى تحديات وعقبات النقد الثقافي بأصنافه وصروفه، موظفاً في عمله النقدي من الخبرة والمعرفة ما يجعله محباً للواقع وللخيال وعاشقاً للبحث والتنقيب والتحليل، لايملَ سهر الليالي متأملاً سماء الأدب، مستشرفاً بزوغ كتاب نقدي جديد قد يستغرق منه سنوات من البحث الجادَ والكتابة العالمة، الدكتور محمد الشحات ناقد يحمل شعلة تتقد طموحاً وأحلاماً وعشقاً حقيقياً للوطن العربي.
في حوارنا معه، يفتح لنا أبوابه الخفية، ونمر معه من الشوارع الخلفية، تلك التي تسكنها أسرار البدايات وسنوات التكوين الأولى، فلننصت بعمقٍ إلى حديثه الماتع من خلال هذا الحوار:
* صدر لكم حديثاً، كتاب موسوم بعنوان «النظرية وتحديات الناقد الثقافي»، هل لكم أن تحدثوا القارئ العربي عن فحوى هذا الكتاب وعن مراميه النقدية؟
الكتاب ببساطة مساءلة لطبيعة أو أسباب انتشار وشيوع الدراسات الثقافية في العالم العربي، بطريقة تقترب من الموضة. هل ما يحدث شكل من أشكال التأثر والاستلاب؟ هل هو استلاب؟ استلاب ثقافي مثلا؟ أي ضعف أو تبعية ذهنية؟ أم هو شكل من أشكال الوعي بالتقنيات والمناهج الجديدة؟ كل هذه الأسئلة كانت حاضرة أمامي وأنا أعمل على هذا الكتاب. نحن كنقّاد عرب جزء من العالم بالضرورة، لسنا معزولين عن العالم، فمن باب أولى متابعة كل الأفكار الجديدة. لكنني لا أعني متابعتها بمنطق الضعف والتبعية الذهنية، بل بمنطق القدرة على المساءلة والقدرة على اتخاذ موقف وتبنّي فكرة، أو رفض فكرة، أو تطوير فكرة. بالتالي سوف تنشأ حزمة من التحديات الثقافية التي أطلق عليها «تحديات الناقد الثقافي»، وهي تحديات خاصة بالكتابة والهوية، كتابة التاريخ، الكتابة النسوية، التحديات التي يواجهها الناقد العربي المعاصر؟ هل الناقد الثقافي هو الناقد الذي يشتغل على السرديات أو الشعر أو المسرح أم كل أنواع الفنون والآداب؟ كل هذه الأسئلة نابعة من تحديات بالغة الأهمية. ما هو مستقبل النقد بعد خمسين سنة؟ هل سيذوب النقد بعد تفتّت المناهج بمعناها الواضح؟ أقصد إلى المناهج التي نشأت منذ عشرينيات القرن الماضي، منذ الشكلانية الروسية والأسلوبية حتى بلوغ ثورة فردينان دي سوسير. فمع بزوغ البنيوية أصبح هناك شيوع للمناهج النصية، كالبنيوية والأسلوبية والسيميولوجيا والشكلانية الروسية. أما بعد ثورة مايو 1968م في فرنسا، حصل انقلاب كبير على المناهج النصية. فالمناهج النصية لم تعد كافية لنقد النصوص وتحليل الخطابات، نحتاج إلى أن نستعيد مرة ثانية السياقات، نتكلم عن الثقافة والمجتمع والتاريخ داخل النصوص. هذه هي أسئلة النقَّاد في فترة الستّينيات التي كانت محتدمة بالأسئلة والشكوك وخلخلة المفاهيم الكبرى. فالدراسات الثقافية مظلة كبيرة، اسمها مظلة ما بعد الحداثة. تحت مظلة مابعد الحداثة هذه يمكنك أن تتكلم عن النقد ما بعد الحداثي، تتكلم عن التفكيكية، تتكلم عن مابعد الاستعمار، تتكلم عن النسوية، عن الجندرية، تتكلم عن الـ Gay studies، أي عن ثفافة «المثليين» التي بدأت تتغول في كل بلدان العالم، وما يشبهها من ظواهر نحتاج إلى أن نأخذ موقفا منها، نحن لدينا ثقافتنا الخاصة، لدينا قناعاتنا الخاصة. هناك اليوم من يتحدث عن النقد البيئي، وهو شكل من أشكال النقد يتعامل مع كتابات معنية بضايا الاحتباس الحراري، وذوبان الثلوج في القطبين، وانقراض الحيوانات، وتلاشي الغابات والحياة البرّية، ومشكلات التلوث، وحروب الأسلحة النووية، وعلاقة الإنسان بالطبيعة والأشجار والحيوانات. كل هذه الأسئلة والأفكار يناقشها الكتاب من منظور كيف يواجه الناقد العربي هذه التحديات المستعصية؟ كيف يتخذ منها موقفا ملائما لثقافتنا وهويتنا؟ كيف يقرأ النصوص العربية برؤية جديدة متخلّصة من أيديولوجيات تحكم توجّهاتنا وتحجب عن أعيننا قراءة النصوص والخطابات بحرية كافية.
* في رأيكم، ما هي أهم شروط الاشتغال في مجال النقد الثقافي؟
من لا يمتلك الوعي الكافي بخصوصية النص العربي، أي خصوصية تراكيبه وثقافته وإحالاته، لن يكون ناقدا متميزا. الناقد في رأيي يجب أن يكون مركَّب المصادر المعرفية، لا أحادي المعرفة. ليس كافيا أن يكون الناقد قارئا جيدا أو قارئا محترفا للنظرية الغربية، ليس كافيا البتّة. ليس كافيا أن يكون متعمقا في قراءة التراث العربي وحده، ليس كافياً أيضا، بل أن يجمع بين هذا وذاك في مُركَّب واحد، في وعي واحد. أي أن يكون لديه القدرة على تركيب الأفكار والإحالات، أن يكون مدركا لطبيعة النص العربي وتحولاته، أقصد إلى تطور هذا النص منذ بزوغ الشعر القديم والمقامات والنصوص السردية والتراثية، كما يكون مُطّلعا على حالة المسرح العربي، سواء كان في حالة ازدهار أو ضعف، مُطّلعا على قصيدة النثر، في تجاربها الجديدة، مُطّلعا على الكتابة خارج التجنيس. في محاضرة أمس في معرض الدمام، وقد كنتَ أنت أيضا أحد الحاضرين، سألاني الدكتور معجب العدواني والدكتورة ميساء الخواجة عن الأجناسية. الأجناسية في تصوّري جزء من تطور الكتابة الجديدة، جزء من الوعي الراهن، جزء من تفتت الهويات الصلبة. دعنا لا نكن أخلاقيين أو وعاظا تربويين، أومُدرّسين، حتى إنه لو طُلِب مني أنا الناقد أن أقول رأيي في نص أدبي ما فيجب -كما أتصور- أن أقول رأيي عبر تكوين معرفي مخصوص، ولكني لست ملزما أمام هذا الكاتب أو ذاك أن أقدم له «رؤيا» بالمعنى الاستشرافي أو العرفاني؛ لأن الأدب ليس وعظا، وإلا كان الأولى كتابة خطبة وعظية. في رأيك، لماذا تنفق الدولة على عمل عرض مسرحي أو فيلم سينمائي؟ لأنه يقدم رسالة عبر وسيط مختلف، عبر وعي أكثر تأثيرا من الخطبة السياسية أو الوعظية أو التربوية أو الأخلاقية. النقد في العالم في حالة صيرورة. والنقد العربي في حالة حراك شديد أرجو أن يتمخّض عن شيء يعيد لنا ضبط إيقاع الثقافة بوعي النقد والفلسفة والعلوم الإنسانية.
* في نظركم، هل يمكن تصنيف رواية الكاتبة والناقدة مي التلمساني «الكل يقول أحبك» في خانة سرديات المنفى؟
موضوع المنفى موضوع أكثر تمددا عن ذي قبل. أنا تكلمت عن سرديات المنفى بعد 1967م منذ حوالي عشرين عاما. الآن المنفى أخذ شكلا وجوديّا أكثر. يمكنك القول إن رواية مي التلمساني واحدة من روايات هذا التيار الوجودي في المنفى. كنت أتكلم مع الدكتور محمود الضبع والأستاذ كاظم الخليفة عن الكتابة الجديدة التي هي أقرب إلى كتابة الروائية ميرال الطحاوي مثلا. المنفى هنا اختياري. أي أن الكاتب يختار بقعة من العالم يضع فيها شخصياته، يصنع فيها تمثيلاته التي تعبر عن شعوره الخاص كإنسان مغترب في المجتمع الحديث أو الآني، شعور الاغتراب القاسي جدا، عدم القدرة على التواصل مع الذات ومع الآخرين، سواء نتيجة صراعات عرقية أو طائفية أو اجتماعية أو سياسية، لكن ليس بالضرورة أن يكون الكاتب مطرودا سياسيا، مثل فكرة المنفى عند عبد الرحمن منيف أو جبرا إبراهيم جبرا أو حليم بركات أو إيميل حبيبي أو غيرهم. هناك تغير في المفهوم، لكن التأثيرات هي هي. الآن يمكن لأي شخص أن يشعر بكل مشاعر المنفيين وهو مقيم داخل الوطن، بل داخل العائلة والقبيلة.
* سبق أن تطرقتم لهذا المفهوم في كتابكم « سرديات المنفى دراسة في الرواية العربية بعد 1967م»، هل تأكدون ذلك اليوم؟
نعم. لكن لماذا الآن ثمة شعور بأزمة الهوية لدى المبدعين المعاصرين؟ السبب أن هناك تحولات سوسيوثقافية بعد الثورات والانتفاضات والانفجارات، هناك إحساس بتأزّم هويّاتي، قلق هوياتي. عندما تصبح الهوية في حالة أزمة أو على المحك بين الشك واليقين، بين الوجود والعدم، بين الاكتمال والنقصان، بين الثبات والتغيّر، تبزغ مشكلات المنفى وقضاياه الملازمة له، كما تبزغ رغبة الخروج أو الفانتازيا أو سرديات الأحلام. قد يترك كاتب ما كل ذلك ويكتب نصا فانتازيا حالما بما يجعله يموضع نفسه بعيد جدا عن أرض الواقع. هو شكل من أشكال التعويض، وجزء من تركيبة الكاتب الذي يكتب نصا له علاقة بالمنفى. بالطبع، هناك مكونات واقعية يعيشها كل كاتب ويمتاح منها، بمعنى أنه عاش فترة ما خارج بلده أو انتقل بين مجتمعين، هنا وهناك. مي التلمساني مثلا عاشت في كندا فترة طويلة، ولا تزال، عاشت ما يشبه هذه المشاعر من الانتقال أو الترحال أو العيش في بيئة خاصة مثل مجتمع كندا بطبيعته الباردة، وبراغماتية علاقاته وتركيبته السكانية والثقافية شديد التسارع، وهي الكاتبة القادمة من مجتمع حار مثل القاهرة.يا لها من مشاعر مركَّبة.
* حضور الأسماء مهم في رواياتها..كثيرا ما يحضر المثقفون والسياسيون.. جمال عبد الناصر مثلاً حاضر في روايتها الأولى «دنيا زاد»، وحاضر في الرواية الأخيرة»الكل يقول أحبك»؟
طبعا، لكن الحضور لا يكون حضورا فقط لمجرد استعادة الشخصية.
* ربما هناك مغزى؟
بالتأكيد ربما مغزى رمزي أو سياسي أو أيديولوجي أحيانا. أنت تتكلم عن حقبة الستينيات الناصرية، والقومية، والعروبة. حتى المفاهيم تغيرت يا أستاذ محمد. أتذكر رواية «الذي لا يحب عبد الناصر» للكاتب العُماني سليمان المعمري؟ الرواية بمثابة تفكيك للشخصية الناصرية من بعيد. عبد الناصر شخصية إشكالية، وأغلب الشخصيات السياسية العربية شخصيات إشكالية عند التناول السياسي أو الأيديولوجي لها، لكن عند التناول الفني يختلف المنظور. فالأهم في رأيي هو المعالجة ومنظور المعالجة.
* فيما يتعلق برؤيتكم النقدية إلى أعمال الروائي الراحل عبدالرحمن منيف، هل تلامس هذه الأعمال في جوانبها الإبداعية أم في رسائلها السياسية كما يقاربها بعض النقاد؟
منيف صاحب تجربة روائية شديدة الأهمية؛ لأن تكوينه السياسي و الثقافي والهندسي مختلف. خبرات منيف التي تحصَّل عليها في منطقة الخليج والعراق أوجدت لديه رؤية منفتحة جدا، رؤية من الصعب أن يمتلكها أحد غيره. فبالإضافة إلى اللغة التي كان يكتب بها، لديه قدرة على وضع كثير من المعلومات عن النفط والميثولولجيا والتاريخ والجغرافيا دون ثرثرة. فأنت تقرأ نصا مشبعا بالتفاصيل التاريخية والسياسية والاجتماعية، وهو في نفس الوقت نص سردي ثري وممتع. يا لها من معادلة صعبة جدا لم ينجح بها إلا أقل القليل. منيف حالة خاصة جدا. كنت أتمنى أن أقابله يوما ما.
* في ظل ضعف المردود المادي للكتاب، وكمَ المجهود الذي يبذله الكاتب في إنتاج موَلف، أتساءل، ما هو في اعتقادكم الدافع للكتابة؟
الوجود في هذا العالم. هذا الكتاب الأخير والكتاب الذي يسبقه «خارج المنهج» اشتغلت عليهما ما يقرب من عشر سنوات. إنها الرغبة في إحداث شكل من أشكال الاستمرارية الحقيقية في الوجود من خلال ممارسة الوعي عبر الكتابة النقدية. هي رسالة علمية، رسالة ثقافية، رسالة إنسانية. أنا تأثرت كثيرا بعز الدين إسماعيل، عبد المنعم تليمة، شكري عياد، مصطفى ناصف، نصر حامد أبو زيد، جابر عصفور، صلاح فضل، سيد البحراوي، وآخرين. هذا دور أقوم به عن قناعة وعن حب حقيقي لهذه المهنة وهذا التخصص الدقيق. لعلي أكمل المسار الذي سبقني إليه السابقون. وسوف يأتي من بعدي من يكمل ما انتهيتُ إليه.
* لكن الأكيد أنك لست كائنا معزولا، لديك أسرة، مجهودك هذا يأتي على حسابها، ألم تسألك يوما ماذا تفعل؟ وما الفائدة منه؟
اقول لهم: هي رسالة أؤديها. ويأتيني منها الرزق لا في شكله المادي فحسب، لكنه يأتي من حيث لا أحتسب. شيئ عظيم أن تلعب دورا صغيرا في مسيرة المجتمع العربي الناهض الذي ننتمي إليه جميعا. صدّقني، مجتمعاتنا العربية تستحق أن تنهض وأن تتقدّم بالفنون والآداب والعلوم الإنسانية، كما تتقدم بالاقتصاد والعمارة وشبكات الطرق والكهرباء وغيرها. نحن -ككتّاب ونقّاد- دورنا في الجناح الخاص بالفنون، والفلسفة، والفكر. هي رسالة أؤدّيها وأنا أستاذ جامعي لدي مكتب ووظيفة، ويجب أن أكون أستاذا مفكّرا لا مدرّسا فقط.
* ربما يوافقك في أقوالك وآرائك أكاديميون وكتاب، وقد تجد آخرون يختلفون جذرياً معك، فهل يعود هذا الإختلاف من البعض إلى نوع التنشئة الأسرية أم لطبيعة المشروع النقدي؟ أو بمعنى آخر، هل لعبت الأسرة دوراً في ما أنتم عليه اليوم؟
الإلهام يعود إلى الجذور، البدايات. عندما كنت أذهب إلى الكُتَّاب لحفظ القرآن وأنا في سن الخامسة، كنت أمارس حفظ آيات القرآن الكريم يوميا، وأنا من قرية ريفية نائية من ضواحي الجيزة. ظللت أحفظ القرآن من سن الخامسة حتى سن الخامسة عشرة تقريبا. وبدأ خيالي يتشكل مع القرآن ومع الصور السردية والدرامية، الجنة والنار والجحيم والصراط. عندما كبرت قليلا كنت أشتري الكتب المستعملة من بائع كتب قديمة بقريتنا كان يجلبها لنا من القاهرة في جوال كبير. كان جواله منتفخا بالكتب العربية والإنجليزية والمجلات الملونة. كانت أغلفة الكتاب الأجنبية تعجبني كثيرا بفخامتها وألوانها وصورها، رغم أنني لم أكن أستطيع قراءة حرف واحد بالإنجليزية في ذلك الوقت، لكنني كنت أشتريها، وأشتري بالعربية قصص أجاثا كريستي وأرسين لوبين. ومن خلال جوال هذا الرجل الطيب بائع الكتب عرفت شكسبير وطه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم. ياااه. أنت تتحدّث عن روافد تكوين ثقافي يعود إلى السبعينيات من القرن الماضي.
* وماذا عن الوالدين؟
قد تُدهش عندما أقول لك إن أبي عليه رحمة الله لم يكن يجيد القراءة. كانت أمي متّعها الله بالصحة والعافية هي من تقرأ في بيتنا فقط. كانت تقرأ لي ولإخوتي. لكنها كانت تحكي لنا أكثر مما تقرأ. أحببت منها الحكايات وأحببت جهاز الراديو في بيتنا. لقد تشكّل وعيي عبر آلية الاستماع والإنصات والخيال.. سماع حكايات أمي وبرامج الراديو ومسلسلاته وأغانيه.
* ممن تلقيتم القيم في الطفولة؟
من البيت، المدرسة، من سيدنا شيخنا عليّ الذي كان يراهن عليّ ويقول أنت أفضل الأولاد في حفظ القرآن، ومع ذلك كان يضربني إذا قصرتُ في حفظ آية أو سورة في يوم ما.
* هل تتذكرون في هذه المرحلة موقفاً مؤثراً من الوالد؟
كان هناك موقف وأنا في المدرسة الابتدائية. كنت بدأت أشعر بالملل من الذهاب إلى الكُتَّاب كل يوم. جدي رحمه الله كان شيخ مسجد. كان لديه تصور أني نابغة في القرآن ويجب أن أذهب إلى الأزهر الشريف وأكمل دراستي أزهريا مُعمَما (يرتدي الجبّة والقفطان والعمامة). وكان لدي رفض عجيب لفكرة الأزهر ولهذا الزيّ. لا أعرف السبب. وكانت لديّ رغبة أن أدخل مسار الرياضيات و كلية الهندسة. عندما تمردت على حفظ القرآن، أخذني أبي من يدي إلى ورشة في قريتنا لصناعة الغزل، و أوصى الرجل بي أن يضربني. لم يضربني الرجل ولم يفعل معي شيئا. كل ما هناك أنه أجلسني ساعات طويلة منبوذا، ولم يحدث أي شيء بدني. لكن شعرت بهزة نفسية، وشعرت بالإهانة. ومع ذلك صممت على ألا أكون من رجال الأزهر. دخلت الإعدادية والثانوية بدأت أقرأ الروايات والقصص وأكتب ما كنت أتصوره الشعر. بدأت أتعلم الإنجليزية في الصف الأول الإعدادي. في السبعينيات لم يكن هناك مقررات لغة إنجليزية في الابتدائية. بدأت تعلم الانجليزية في الإعدادية، وبدأت أدرس بشغف حتى الثانوية العامة، وكنت «شاطر» في الرياضيات، لكنني مرضت في امتحانات الثانوية العامة بالتهاب رئوي حاد، ولم يكن أدائي في الامتحانات جيدا، ولذلك لم يكن تقديري مؤهلا لي كي ألتحق بكلية الهندسة. هنا كانت الصدمة. أين أذهب؟ كان لدي صديق قال لي: تعال ادخل معنا الآداب. كان يسبقني بعام في الآداب. دخلت الآداب جامعة القاهرة، وقلت «اكتشف نفسك، فإما أن تنجح أو اترك التعليم برمّته». في أول محاضرة حضرتها في كلية الآداب كنت الطالب القادم من خلفية الرياضيات والهندسة. لم يكن لي علاقة قوية بعالم الأدب واللغة وقواعد النحو العربي والبلاغة إلا من حفظ القرآن وقراءة الروايات والقصص. يعني مخزوني من الثقافة العربية كلها تجسّد فقط في شيئين القصص والروايات وخيالي الذي تشكل عبر القرآن الكريم. كان ذلك في عام 1989- 1990م. في أول محاضرة لي بقسم اللغة العربية، كانت عن الأدب الجاهلي، وتحديدا في موضوع شعر الصعاليك، والمحاضر هو الدكتور يوسف خليف. وهو واحد من أهم أساتذة الأدب الجاهلي في العالم العربي آنذاك. بدأ الرجل يتكلم عن شعر الصعاليك وعن فلسفة الصعلكة والتمرّد وعن عروة بن الورد. حقيقة، فُتِنتُ بالشعر الجاهلي. وقلت لنفسي: «ليكن لك مكان هنا». وبدأت الحكاية. درسنا العروض ودرسنا الشعر، ودرسنا النثر العربي، وتولّد لديّ دافع جديد أنني يب أن أبقى هنا في هذا القسم. وأكملت بعد ذلك الماجستير والدكتوراه. لك أن تتخيل أن دراستي في الرياضيات والفيزياء أفادتني في تلقّي الأدب. لم أُعيَّن معيدا في الكلية، رغم أني حصلت على درجات عالية جدا. عملت في مجلة «فصول»، وكانت أعتى مجلات النقد بالوطن العربى آنذاك. كما عملت في مركز البحوث العربية مع الأستاذ حلمي شعراوي المتخصص في الدراسات الأفريقية. ومن الطريف أن أول مقال نقدي أنشره في حياتي وأنا في الليسانس 1993- 1994 في جريدة اسمها «المسلمون». كانت الجريدة تعمل مسابقة عن كاتب يكتب مقالة نقدية يشتبك فيها مع قضية نقدية تطرحها. اشتبكتُ أنا الصعلوك الصغير مع من؟ مع عبد السلام المسدي في حوار له عن الحداثة العربية على صفحات الجريدة ذاتها. فوجئتُ بخطاب مسجل بعلم الوصول يأتيني على بيتي وبداخله خطاب شكر على المقال المنشور بالعدد التالي ومكافأة مالية قدرها 300 دولار. وكان هذا أول مبلغ أتقاضاه عن الكتابة النقدية.
* ماذا يشغلكم اليوم؟ وما هي الأفكار النقدية التي مافتئت تؤرقكم؟
أشتغل على كتاب جديد عن «الأدب البيئي»أتناول فيه نصوص محمد المخزنجي في فصل كامل من الكتاب، تحديدا كتابه عن «كارثة تشرنوبل»، كما أعدتُ قراءة رواية «الأرض»للشرقاوي ورواية «زينب» لمحمد حسن هيكل ورواية «دعاء الكروان» لطه حسين من زاوية علاقة الإنسان بالأرض، وتحديدا من خلال فكرة البيئة (أو المقاربة الإيكولوجية)، وفق ثلاثة نماذج تحلِّل علاقة الإنسان بالطبيعة.
* ما هو الانطباع الذي خرجت به من معرض الكتاب الأول بالدمام، ومن هم نقاد الأدب بالمملكة الذين تحرص على القراءة لهم؟
معرض الكتاب بالدمام تظاهرة ثقافية حضارية، أنا شخصياً لم أكن أتوقع كل هذا الزخم من دور النشر والجمهور السعودي والعربي. فضلاً عن ذلك، فعدد الفعاليات المقامة على هامش المعرض كانت متعددة ومتنوعة وجاذبة لقطاع عريض من الجمهور، وقد شاركت في واحدة منها، وتابعت أكثر من ندوة وأمسية.لكن مالفتني فيها حضور جمهور الثقافة من الفئات العمرية الصغيرة من شباب المدارس والجامعات هذا هو جمهور الثقافة في المستقبل القريب. شيىء مبشر حقاً.
أما عن النقاد السعوديين، فأنا أتابع باستمرار الراسخين منهم، ممن تتقاطع اهتماماتنا، مثل سعد البازعي، عبدالله الغذامي، معجب العدواني، وغيرهم. كما إنني معجب بالنقاد الجدد الذين ظهرت أسماؤهم بقوة في السنوات الأخيرة.