حامد أحمد الشريف
سرَّ جمال هذه القصّة الإبداعيّة، خلاف لغتها الأدبيّة البسيطة بكلّ مكوناتها البلاغيّة والأسلوبيّة، هو قدرتها على الاستحواذ على محبّة المتلقّي، وشغفه بالنصّ، والارتباط به حتّى النهاية
أشار إليّ بسبابة يده اليسرى، بمقلتين ملؤهما الإعجاب، فركتُ عينيّ من فرط الدهشة، وكدتُ أقفز من شدة الفرح: هل سأخرج إلى العالم، وأترك هذا المكان الممل الكئيب المليء بالصخب والضجيج، الذي أرهقني بأضوائه الصارخة، وإنارته الحارقة: يا ترى كيف يبدو هذا الكون؟
رأيته يميل إلى الرجل الذي يقف بجانبي دائمًا، وحدثه بصوت خافت، لم أستطع سماعه أو الإنصات إليه؛ لانشغالي بالتفكير في حياتي القادمة، أخيراً ارتداني في معصمه، وغادرنا سويًّا.
في تلك الليلة نام بقربي انتظارًا لشروق شمس العيد معلنة بدء البهجة، شعرتُ بالزهو، وأنا محتضنة يساره بجلدي البنيّ الفاخر، وغمرني الخيلاء عند مبالغته في التلويح مباهاة بي عند السلام والتحية، لفتُّ أنظار الجميع، وسحرتهم بألق جاذبيتي، فاشرأبت الأعناق متأملة، ولاحقتني النظرات متفحصة، وتتبعتني مودعة لمعاني أثناء مغادرتنا المكان معًا.
يوماً بعد يوم توثّق الرباط بيننا، فصرتُ ملازمة له حتى أصبحتُ جزءًا لا يتجزأ منه، فأنا رفيقته التي لا يشرع بالعمل دون النظر بانهماك إليها، ومعشوقته التي تشعر بحرارة جسده المتدفقة في عروقه المنتشية طربًا لتسارع نبضات قلبه. ومُؤنسته في طريق عودته قبيل البزوغ من ذلك الفندق الفخم في وسط العاصمة الذي اعتاد على ارتياده في عطلة نهاية كل أسبوع؛ حيث اللقاء المنتظر الذي يعيد له جذوة الحب الأول، ووهج الشباب الراحل، فيضعني فور رجوعنا إلى منزلنا في علبتي المخملية بكل رقة؛ حيث أعيش في ظل اهتمامه، وكنف رعايته، وأتمتع بحرصه علي بصيانتي حفاظًا على رونقي.
وبعد فترة لم تتجاوز السنة بدأ الفتور يتسلل إلى نفسه، ويطغى على معظم تصرفاته تجاهي، وكأن الجليد كسا قلبه، وتمكّن منه حتى أطبق قبضته عليه، فبرز الإهمال كحجة دامغة لا تقبل الشك أو الظنّ، فصرت حبيسة الأدراج لأيام، بل أسابيع، وأحيانًا عدة شهور، بذلت قصارى جهدي لأحيي فيه الشغف الذي كان؛ فتارة أدّعي المرض، وتعطّل بطاريتي، وتارة أصدر أصواتًا مزعجة لعلّه يتذكر وجودي، وعندما علمت ألا طائل من هذا كله تملّكني اليأس» لكن لا طائل من هذا كله، تملّكني اليأس، وسيطر عليّ القنوط، فقد أيقنت أفول نجمي في سمائه. خفت بريقي تدريجيًّا، وظهرت علي بوادر الصدأ، وامتلأتُ بالخدوش الناتجة عن ارتطامي المتكرر بسطح منضدة قهوته. ساءني كثيرًا ما آلت إليه الأمور بيننا، وما أعانيه من جفاء وقسوة بعدما كنتُ حافظة لأسراره، وكاتمة لخباياه، وخليلة لأوقاته.
وذات مساء لاح بصيص أمل، يبدو أنه سيذهب إلى مقابلة مهمة، أو اجتماع عاجل، أو ذلك الموعد، فقد لبس ثوبه المميز، وغترته المكوية بشكل متقن، وتعطر بعطره الفاخر تحرّكتُ بحذر مقتربة من فنجان قهوته أثناء احتسائه بضع رشفات منه؛ لعله يشفق علي بنظرة، شارفتُ على ملامسة كفه، لكن … لكن ….آآه دنوتُ من زاوية الطاولة، اختل توازني، سقطتُ واصطدمتُ برخام الأرضية، غادر مسرعًا، أطفأ النور، وتوقفت دقات عقاربي.
الكاتبة اليمنيّة وفاء عمر بن صديق.
لا أعلم لمَ ذهبتُ بعيدًا وقد انتهيت من مطالعة قصّة «معصَمُهُ الأيسر» للكاتبة اليمنيّة وفاء عمر بن صديق، المنشورة في مجلّة «فرقد» في عددها الرابع والتسعين، بتاريخ 1 إبريل 2023م.، وكانت قد اتّخذت من ساعة اليد أو المعصم - كما وصفَتْها كاتبتُنا - بطلةً أدارت كامل الصراع، وروته لنا بلسانها وضميرها المتكلّم وقلبها الموجوع، وغلّفته بمشاعرها وأحاسيسها العبِقة التي استثارت أوجاعنا وأيقظت ضمائرنا - أو لعلّ ذلك ما شعرتُ به وقد انتهيت منها - إذ أنسنَتْ نفسها عند قولها: «فركتُ عينيّ من فرط الدهشة، وكدتُ أقفز من شدّة الفرح»، وقولها: «رأيته يميل إلى الرجل الذي يقف بجانبي دائمًا، وحدّثه بصوتٍ خافت، لم أستطع سماعه أو الإنصات إليه؛ لانشغالي بالتفكير في حياتي القادمة».وكما يظهر هنا، فالساعة أصبحت ترى وتسمع وتفكّر، وتحلم بالمستقبل وتخطِّط له، وتقفز... ولديها حياة ممتدّة، وكأنّ روحًا بشريّة سكنتها، فخلّصتها من جمودها ونفخت فيها الحياة.
كان حديثها على هذا النحو مقنعًا جدًّا، حتّى أنّني كدت أذهب لأتفقّد ساعاتي التي مضى عليها زمن لم تحطَّ رحالها بمعصمي... تذكّرت وقتها أنّ لديّ الكثير منها، وقد اجتهدن في طلب ودّي واستعادتي من عالمي البعيد عنهنّ وترغيببي في ارتدائهنّ، وذلك على نحو لا يختلف كثيرًا عمّا فعلَتْهُ بطلة هذه الحكاية التي لا أظنّها إلّا وتتحدّث نيابة عن كلّ الساعات المهمّشة، أو تلك التي لقيَت حتفها نتيجة إهمال أصحابها لها؛ أو لنقل، إنّها حملت على عاتقها همّ كلّ الأشياء المهمَلة التي ملأت في يومٍ من الأيّام السمع والبصر وغدت بعد ذلك نسيًا منسيًّا.
تذكّرْتُ أيضًا أثناء تصفّحي لهذه السرديّة الإبداعيّة ومروري بمنعطفاتها ووقفاتها الشعوريّة، أنّ إحدى ساعاتي ادّعت المرض بالفعل، وأخبرتني بنفاد بطّاريّتها وتوقُّف عقاربها عن الدوران - تمامًا مثل راويتنا - حتّى أنّها أظهرت لي تفسُّخ جلدها وتقوُّس أطرافه، وتيبّسه وتغيُّر لونه، وكادت تصرخ في وجهي لفداحة ما ألمّ بها, لكنّني - للأسف - ما كنت لأعيرها اهتمامًا، لظنّي أنّها جماد، ولا يمكن أن تشعر بمدى إهمالي لها. وهذا ما كنت أفعله مع كلِّ حاجياتي التي اعتقدت أنّها لا تملك الشعور والإحساس اللّذين نملكهما، وأنّه يحقّ لنا أن نفعلَ بها ما نشاء.
اليوم، وقد طالعت هذه الحكاية الحزينة، شعرْتُ بعقدة الذنب، وأصبحَت كلُّ ساعاتي المهمَلة تنتصب أمامي مستمطرةً أدمعي وهي تُنكر عليّ ما فعلته بها طوال السنوات الماضيات... إذ لا يمكنني إنكار استيلائي عليها هي وباقي أخواتها حينًا من الدهر، عندما استلّيتهنّ من فترينة العرض، وأوهمتهنّ جميعًا باحتفائي بهنّ، وعشن معي تلك الفرحة التي تعيشها كلُّ ساعة عندما تجد من يخطب ودّها، فتُزَفُّ إليه مغتبطة، قبل إهمالها ونسيانها وانقلاب أفراحها أتراحًا تؤذِن بنهايتها. تمامًا كما حدث مع صاحبتنا التي نطقت، لا لتعبِّر عن مشاعرها الدفينة، وإنّما لتخبرَنا عن حال كلّ الأشياء التي تقع تحت طائلة مشاعرنا المتبدِّلة دونما سبب، عندما نحبُّ ونكره من دون الالتفات لتأثُّر الأشياء بأحاسيسنا المضطربة.
قد يعتقد البعض أنّ هذا هو مرادُ الكاتبة وبغيتُها من هذه الحكاية، وأن لا هدف لديها سوى أنسنة الأشياء، وإشعارنا بالوجع الذي تعانيه عندما نتعامل معها على أنّها جمادات لا روح فيها، أو لنقل بشكل أدقّ، أنّها أرادت أن توقفنا على رحمة الله بنا، إذ أفقدَ الجمادات القدرةَ على التعبير عن أحاسيسها، وخلّصها من تلك المشاعر التي تقوم حياتُنا كلُّها عليها؛ وإلّا لقالت وفعلت ما لا يمكن لنا تخيُّله، في ظلّ صنيعنا بها وإسرافنا في امتهان مشاعرها والنيل منها.
إنّ هذا البُعد الإنساني يمكن قبوله في القصّة القصيرة، أو في السرد على عمومه، إذ ينقذهما من السطحيّة، ويغذّيهما بشيء من العمق المثري الذي - في ظنّي - لا يكتملان بدونه. وقد لا نحتاج لأكثر من ذلك لرفع قيمة القصّة والتغنّي بها، طالما التزمت بالحدّ الأدنى من معايير السرد القياسيّة. فالبعد الإنساني يجعلنا، بعد انتهائنا من قراءة هذا النصّ الجميل، نتنبّه إلى ضرورة أن نكون حاضري الإحساس تجاه كلّ مقتنياتنا، حتّى لو لم تشعر هي بذلك، طالما أنّ الأخلاق والمشاعر تُعبِّر عن نبل صاحبها، أكثر من ارتباطها بقيمة المهداة إليهم. علمًا أنّ أكثر مَن يتضرّر مِن سوء الخُلق هو صاحبه.
كلّ ذلك مهمّ وجميل، إلّا أنّ الأمر لا يقتصر على هذه الناحية فقط، فهناك زاوية أخرى لا تقلّ أهميّة عمّا سبق، رغم غياب الشواهد الصريحة التي ترشدنا إليها، أو لنقل، رغم افتقارها للوضوح الذي يجعلنا نذهب إلى النقطة التي أرادتها القاصّة، ونحن مطمئنّين، بلا خوف من أولئك المتصيّدين الذين قد يتّهموننا بجرّ النصوص إلى الزاوية التي تستهوينا للحديث عنها، بتحذلق لا يمكن تمريره على الجميع. وهو ما يقع فيه - للأسف - بعض النقّاد.
وبالعودة إلى حكايتنا، وبمعزلٍ عن محورها الأساس المتمثّل في استنطاق الأشياء الجامدة وأنسنتها، نجد أنّه لا يمكن الجزم بمعنى محدّد يُفهَم منها أو يصحّ نسبته إليها. وإن كنتُ قد تحايلْت، معتبرًا أنّ فهم القارئ لمضامين النصّوص أو مغازيها، أمرٌ نسبيّ، يصعب الرهان عليه. وهو ما دفعني إلى استخلاص الصراع الذي قدّمَتْه لنا ساعة المعصم الملهمة، وأنضجَتْهُ، قبل أن تُخمدَ نارَه وتُطفئه في مفارقة النهاية الحزينة؛ ذلك الصراع الذي بُنيت عليه الحكاية كاملة، وقرّرتُ أن أستلَّهُ بعيدًا عنها، وأجعله ميزانًا نترجم من خلاله العلاقة التي تربطنا بمحيطنا بكلّ مكوّناته الحيّة أو الجامدة.
فلا أظنّ الكاتبة استوقفتنا كي تحدّثنا فقط عن المشاعر التي افترضت أنّ الساعة تمتلكها - رغم أهميّتها - بل كان في ما قالته ما يذهب بنا بعيدًا عنها، ويجعل الصراع الموصوف يتكرّر حدوثه في العديد من المواضع، ولا يرتبط بها وحدها، ولا حتّى بكلّ الجمادات أمثالها. فالإنسان عامّةً، غالبًا ما ينحى هذا المنحى في ردود فعله من كلّ المستجدّات التي تطرأ على حياته من الأحياء وغيرها. وإن كان صنيعه في هذه الحكاية قد أنطق الساعة وهي ترى ظلمه وتعدّيه، إلّا أنّ هذا السلوك - في الواقع - ملازم لكثيرين من بني البشر، ممّن يمكن وصفهم بالمستهترين، أو متقلّبي المزاج، أو الأنانيّين الذين لا يهمّهم غير مصالحهم الشخصيّة التي قد يدمّرون في سبيلها كلّ ما يقع في طريقهم. وهو ما وصفَتْه لنا القاصّة بدقّة في قولها: «ومُؤنسته في طريق عودته قبيل البزوغ من ذلك الفندق الفخم في وسط العاصمة الذي اعتاد على ارتياده في عطلة نهاية كلّ أسبوع؛ حيث اللقاء المنتظر الذي يعيد له جذوة الحبّ الأوّل، ووهج الشباب الراحل».
كما تلاحظون، أوحت لنا الكاتبة بطريقتها، أن الرجل في القصّة ينتهج هذا السلوك المؤقّت في إرضاء ملذّاته، من دون الالتفات إلى الآخرين. فالتقاؤه بحبيبته في فندق في نهاية الأسبوع، فيه إشارة واضحة إلى الخيانة التي تماهت معها وقبلتها، ولم تكن تعلم أنّ دورها سيأتي... وفي ذلك إشارة جميلة أيضًا إلى ضرورة رفضنا للسلوك السيّئ حتّى لو لم نكن نحن المستهدَفين فيه؛ فالخائن لا حدود لخيانته. بمعنى أنّ هؤلاء ضررهم متعدٍّ ولن يقف عند الجمادات فقط، بل قد يطال البشر وكلّ الكائنات الحيّة التي - يقينًا - تمتلك الأحاسيس والمشاعر، حتّى وإن لم تستطع التعبير عنها، على العكس من بني البشر الذين يذهبون بعيدًا في تفاعلهم مع تلك المشاعر، وقد يجعلون منها نارًا تضطرم وتأكل أحيانًا الأخضر واليابس، فتفنى أممٌ بسببها، ويكون أساسها شخصٌ جاهل، أو مستهترٌ لم يمنح هذه المشاعر ما تستحقّه من رعاية واهتمام...
إنّه الوصف نفسه الذي أخبرتنا به هذه الساعة، عندما استطاعت بصدقها وإخلاصها وتضحيتها، أن تنقل لنا الحكاية التي أرادتنا أن ندرك من خلالها حجم الضرر الذي قد يوقعه شخص كهذا، إذ لن يقتصر سوؤه بأيِّ حال على ساعة كهذه فحسب، بل سيطال كلّ ما يقع تحت يده، فيلقى الجميع المصير نفسه، ومن هؤلاء بالتأكيد حبيبته التي يظهر أنّه هجرها، لذلك لم يعد بحاجة للساعة. وقد أشارت الكاتبة بذكاء إلى هذه النقطة، عندما أخبرتنا الساعة بدخوله في علاقة جديدة أشعرتها بعودته للاهتمام بها أيضًا، لولا أنّها لقيت حتفها، حين قالت: «وذات مساء لاح بصيص أمل، يبدو أنّه سيذهب إلى مقابلة مهمّة، أو اجتماع عاجل، أو ذلك الموعد، فقد لبس ثوبه المميّز، «وغترته» المكويّة بشكل متقن، وتعطّر بعطره الفاخر...».
كلّ ذلك لم يشعرني بالرضا، إذ لا يزال بداخلي إحساس أنّ للكاتبة مراميَ ومغازيَ أعمق من ذلك بكثير، وبدا لي أنّ هناك زاوية مهمّة يمكن تأويل الحكاية من خلالها، وأخذها إلى منعطف مختلف تمامًا، يمنحها قيمةً إضافيّة تستحقّها، وإن كنت لا أملك ما يدعمها من شواهد في سيرورة أحداث القصّة ومشهديّتها وحواراتها؛ فهي لم تُشر إلى ما يدور في رأسي مطلقًا، ومع ذلك لم أستطع استبعاده من دون أن أملك ما يؤكّده أو ينفيه، وأعني بذلك توظيف هذه الحكاية التخيّلية للحديث عن المرأة وعلاقتها بالرجل في إطار الزواج التقليدي، أو العلاقات العاطفيّة بكلّ صورها وأشكالها.
فبعيدًا عن تشبيه المرأة بساعة معصم معروضة بانتظار من يخطب ودّها ويقتنيها (وهي منزّهة بالتأكيد عن ذلك) أرى أنّ الفتاة بطريقة أو بأخرى لا تبتعد عن هذا الوصف العبقري. فالمرأة حسب تكوينها الفسيولوجي، ووظيفتها الأساس في الحياة، وما تتمتّع به من حياءٍ فطريّ يمنعها من البوح برغباتها تجاه الطرف الآخر، غالبًا ما تعيش صراع العواطف مع نفسها بانتظار الرجل المخلص الذي يستخلصها له وحده، ويخصّها بمحبّته دونًا عن باقي بنات جنسها.
لذلك، فالوصف الذي نقلَته لنا ساعةُ المعصم يمكن إلصاقه بسهولة بأيّ فتاة تنتظر فتى أحلامها، وتفرح عندما يأتي لخطبتها أو لبناء علاقة عاطفيّة معها، وتعيش كلّ اللحظات التي وصفتها هذه الحكاية، وهي تُمنّي النفس أن تجدَ السعادة التي كانت تنشدها.
هذه هي قراءتي للقصّة حتّى لو لم يخطر ببال المؤلّفة هذا المعنى. وقد لا أحتاج لشواهد تؤكّد ما أراه، فالقصص الإبداعيّة التي تحمل معانيَ عظيمة تمنح القارئ أُفقًا أرحب لأخذ الحكاية إلى المكان الذي يريده. فما المانع أن تكونَ الساعةُ فتاة، والمتبضّعُ شابًّا خطبَ ودّها؟ وبعدها يمكننا استكمال باقي فصول الحكاية... وهو ما يجعلنا نقول إنّ الكاتب يدوِّن وقائع الحكاية بالمعاني التي تدور في رأسه، لكنّه يفشل عادةً في تأطيرها بمعانٍ محدّدة لا يمكن تجاوزها. لذلك، ليس بمقدور أيّ كاتبٍ محاسبتنا إن أخذنا نصَّه بعيدًا عن معانيه المستهدفة، وعليه التسليم بأنّ هيمنته على قلمه وأفكاره مرهونة بخبرته وقدراته الإبداعيّة، فإن وصل إلى مرحلة معيّنة من الإبداع، يفقد قِوامته، ويخرج القلم عن نطاق سيطرته، مدوِّنًا بمكرٍ ما لم يُرد قوله.
هذه الفتاة التي اخترْتُها بديلة عن ساعة المعصم، تعيش بالفعل فرحةَ عثورها على فتى أحلامها، وتبني آمالًا كبيرة عليه، إذ تظنّه سيخلِّصها من مرحلة التهميش العاطفي المرتبط بغريزتها كأنثى، أو ما وصفته الكاتبة بقولها: «المكان المملّ الكئيب المليء بالصخب والضجيج، الذي أرهقني بأضوائه الصارخة، وإنارته الحارقة». وهي مرحلة حقيقيّة تمرّ بها كلّ فتاة قبل عثورها على فتى أحلامها، عندما تعيش مشاعر مضطربة وغير واضحة المعالم، متعلِّقةً بكلّ شابّ يقترب منها؛ تلك العلاقات الخاطفة التي يختلف وهجها وعمرها، قبل انطفائها وتحوُّلها باتّجاه مصدرٍ آخر، أو شابٍّ آخر.
وهكذا يبقى الصخب الشعوري حاضرًا في أغلب الأوقات، يغلِّف هذه المرحلة ويحدِّد ملامحها، وتبقى الأعين تلاحق الفتاة، والهمس يدور حولها، بما يشبه الوصف الذي ذكرته في قولها السابق، إذ لا استقرار حقيقيّ للعواطف طالما لم يحضر الشاب الذي يوقف هذا الضجيج، ويمنحه قالبًا محدّدًا ويضفي عليه شيئًا منَ الهدوء والاستقرار؛ ولا خفوتَ للأضواء المسلّطة على الفتاة طالما هي متاحة لبناء العلاقات.
هذا ما يعني أنّنا أمام حياة حقيقيّة، على الأقلّ من الناحية العاطفيّة، تبدأ بالخروج من المنزل القديم إلى المنزل الجديد، وطلاق الحياة الاجتماعيّة القديمة بكلّ مكوّناتها، والانتقال إلى حياةٍ جديدة عمودها وأساسها التملُّك والحياديّة، وعنوانها السعادة، بما يكاد يشبه تمامًا ما حدث مع ساعة اليد، عندما فرحت بخروجها من فترينة العرض، وابتعادها عن شقيقاتها، بعد عثورها على بطلٍ قرّر الارتباط بها، ودفع مهرها مستأثرًا بها لنفسه. وظنّت أنّها ستعيش الحياة التي كانت تحلم بها، باستقلاليّة محبّبة، واستحواذٍ جميل على شابٍّ ظفر بها وظفرت به، وتملّك كلٍّ منهما الآخر، لكنّها - بالطبع - ستُصدَم لاحقًا بنمطيّة الحياة الحقيقيّة بعيدًا عن بهرجة البداية وهيمنة الغريزة، عندما تكتشف أنّ أحلامها الورديّة لا تزال كما هي مجردَّ أحلام يصعب تطبيقها على أرض الواقع. وقد تكون النتيجة أسوأ ممّا نتخيّل، إن حمل الشابّ المواصفات نفسها التي حملها الرجل الذي قرّر الارتباط بساعة المعصم، وخذلها في نهاية الأمر.
كلّ ذلك الجمال لا يجعلنا - بالطبع - نتغاضى عن بعض الملاحظات الكتابيّة، كقولها: «معلنة بدء البهجة»، عند حديثها عن شروق شمس العيد. فقد كان في وسعها صياغة العبارة بطريقة أجمل، كون هذا الموضع هو من المواضع الشعريّة التي ينبغي استثمارها بشكل جيّد لتجويد كتابتنا. كذلك قولها: «حجّة دامغة»، عند حديثها عن الإهمال الذي كان عليه الشابّ. فهي، في ظنّي، لم توفّق، كون هذه العبارة بعيدة عن اللغة الأدبيّة الجميلة. أيضًا قولها: «لكن لا طائل من هذا كلّه»، في حديثها اليائس عند عجزها عن لفت انتباهه، بينما كان يسعها القول: «وعندما علمْتُ ألّا طائل من هذا كلِّه، تملّكني اليأس»...
في الختام، تمنّيت لو أنّهم عند النشر لم يضعوا صورة الساعة، فالقاصّة إنّما أرادت بأسلوبها الكتابي الغامض خلق إثارة معيّنة لاستفزاز القارئ ودفعه لإكمال الحكاية، لذا لم تذكر الساعة صراحة في نصّها، وكونها لم تفعل كان ينبغي عدم استباق الموقع للأحداث بإتيانه بصورةٍ تكشف الموضوع.
وبعيدًا عن تلك الملاحظات التي ترتبط غالبًا بالذائقة ولا تدخل في إطار الخطأ والصواب، لا بدّ من القول إنّ سرَّ جمال هذه القصّة الإبداعيّة، خلاف لغتها الأدبيّة البسيطة بكلّ مكوناتها البلاغيّة والأسلوبيّة، هو قدرتها على الاستحواذ على محبّة المتلقّي، وشغفه بالنصّ، والارتباط به حتّى النهاية. كذلك تميّزَتْ بمستويات فهمها المتعدِّدة التي ساعدتني على تدوين هذه القراءة، ونجاحها في أنسنة الساعة وجعلنا نتعاطف مع حكايتها، وهو ما وُفّقت فيه المؤلّفة إلى حدٍّ بعيد، حتّى بتنا لا نستنكر إحساسها وتجاذباتها النفسيّة وتحوّلاتها الشعوريّة التي واكبت تنامي الصراع وتراجُعَه، وصولًا إلى النهاية.
لعلّ ذلك ما جعلني أشعر أنّ الساعة هي تلك الفتاة التي يصدمها واقعها كلَّ يوم، عندما تكتشف أنَّ ما ظنّته حبلَ خلاصها كان حبل المشنقة الذي قضى عليها.