د.عبدالله سعد أبا حسين
كتب الأستاذ محمد بن عبد الله بن بليهد (1310 - 1377هـ) كتابين عن البلدان، والجبال، والوديان، والمياه في جزيرة العرب، الأول: (ما تقارب سماعه وتباينت أمكنته وبقاعه)، يستهدف المتقارب من المواضع في اللفظ والكتب، وجعله في جزء واحد، والثاني: (صحيح الأخبار عمّا في بلاد العرب من الآثار)، في خمسة أجزاء، يستهدف ما ذُكر من المواضع في شعر الأوائل، وبقي مسمّاه من العهد الجاهلي، أو لم يبق، والكتابان ثريّان بمعلومات في موضوعهما وغير موضوعهما، فإنّ المؤلف مُجرّبٌ، كثير الأسفار، قرأ أديم نجد، واصّعد في جبالها، وذرع ربوعها، كما أنّه واسع الاطّلاع، غزير المعرفة، متشعّب الصلات، لقي الأشياخ حاضرة وبادية، وسمع منهم، وسألهم، وحفظ الكثير من الأخبار والأشعار، وانعكس كلّ ذلك على كتابيه إذا ندّ واستطرد، وكثيراً ما يفعل، فيُتحف القارئ باستطراده؛ كذكره توافق المعاني في شعر شعراء نجد حاضرة وبادية، وشعر الشعراء الأوائل للتوافق في نمط الحياة، وأورد شواهد كثيرة (2/ 189-210)، وذكره تطابق ما ذكره ياقوت في معجم البلدان عن بعض المواضع وما ذكره آباؤه عنها، وتساءل: من أين لهم ذلك (5/ 226، 271)، ونثرِه عادات النّجديين خصوصاً من البادية (2/ 122-127)، (4/ 184، 212)، (5/ 181، 211، 272)، وتعريجِه على أيام العرب، وحراك قبائل البادية في القرن العاشر الهجري، وما بعده، وأخبارهم (2/ 110-132)، وذكره لأمثالٍ شعبيّة نجديّة، ومناسباتها (5/ 33، 68، 149)، ومن استطراداته: روايته بالإسناد عن آل عكاس أهل الأحساء أنّ حاكم الأحساء القديم أجود بن زامل، اشترى موقفاً في عرفة للعرب، وأوقفه لله تعالى عليهم، لأنّ شريف مكة ووالي التّرك كانا يأخذان مالاً على كل حاجّ يريد الوقوف بعرفة (ما (237))، وروايته أيضاً عن الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ أنّ للشيخ المجدّد محمد بن عبد الوهاب سهمٌ في (أم ضواء) في العيينة، لم يبعه، ولم يُعطه لأحد (ما (263))، وذكر موضعاً اسمه (أمّ الخشب)، فاستطرد، بذكر أحسن نخلة في القصيم يقال لها (أمّ الخشب) أيضاً، وأتبعها بذكر ممازحة للإمام فيصل بن تركي مع أمير بريدة محمد العلي العرفج، حيث سأله: أيّ نخل القصيم أحسن. قال: أمّ الخشب. قال الإمام: هي أحسن أو نبتة سيف. فأجاب بسرعة بديهة: (التي معها سيف هي الغالبة) (ما (203))، وذكر الشّعب، والشّعبة، واستطرد، فذكر (الشعيبيّة) محلّة في بلدة ثادق، وأفاد أنّها دُفنت بالرال، وأنّه مرّ عليها ورأى شرفات قصر أميرها عبد الله بن سعد بن سويلم باقية، وبعض رؤوس النّخل، ثمّ مرّ عليها بعد أن دفنتها الرمال، ولم يظهر منها شيء (صحيح (5/ 124)، وما (19)، وحمد الوهيبي (ثادق)، ص87)، وذكر (الشّحم)، من مياه (السّرّ)، وأفاد أنّ طيور القطا ترد عليه بكثرة، ويتعيّش بصيدها وبيعها أهل تلكم المنازل، وبعضهم أوصى بأن يُجعل في موضع يملكه يُصطاد فيه القطا؛ أضحية له ولوالديه (5/ 221)، وبلدة (القصب) كانت مشهورة بطيب الحبّ النابت في بعض رياضها، وتليها بلدة (ضرما)، ويُضرب بجود ما ينبت فيهما المثل، يقال: (هذا حبّ القصب على بطنه)، أو: (هذا حب ضرما على بطنه)، يعني: لم يدخله الغش (ما (197)، وصحيح (4/ 286)، والجهيمان (الأمثال الشعبية) (9/ 229)).
وإذا ذكر ابن بليهد محالّ مدينة الرياض؛ أتبعه -احيانا - برصد لمتغيّرات طرأت عليها سنة 1356هـ وما قبلها وبعدها، فتتبّعت ذلكم، قال عن محلّة (الشرقية): (رُسمت شرقية لأنّها شرقي النّخل المعمورة، ولم تعد شرقيّة بعد أن قُطعت النّخيل، وعُمرت بيوتاً، وإنّما غربي جنوب الرياض) (ما ص101)، وقال عن محلّة (الوسيطا)، الواقعة في جنوب الرياض: (كنت أعرفها نخيلاً قبل أن تُعمر بيوتاً) (ما (61))، و(المرقب) حارةٌ كانت مساكن على جانبي قصر (المرقب)، شرق سور الرياض (ما (70))، وذكر أنّ نخل ابن مطرف في غرب الرياض (ما (163))، قلت: لم أقف على ذكر نخل ابن مطرف في معجم مدينة الرياض للأستاذ خالد السليمان، وآل مطرف هم حملة الراية في معارك الملك عبدالعزيز، بعد آل المعشوق الأبطال، فحملها عبد الرحمن بن مطرف في موقعة الشنانة، ثم في معركة روضة مهنّا، وهو الذي عرف عبد العزيز بن رشيد لما اضطرب واقترب من رايته، فصاح ابن مطرف: هذا ابن رشيد يا طلابته، فقُتل، وكان ابن مطرف حاضر البديهة، سريع النكتة، أجرى له الملك عبد العزيز راتباً شهريّا، له ولأسرته (إبراهيم بن خميس (أسود آل سعود وتجربتي في الحياة)، ص46، وعبد الله بن خميس (معجم اليمامة) (1/ 504)).
وقال ابن بليهد عن (الشمسيّة): (بئرٌ في الرياض) (ما (186)، وصحيح (5/ 20))، قلت: ذكر أحمد الكاظمي في يومياته أنّها آبار، تقع في شمال غربي الرياض، وأفاد أنّ كثيراً من أهل الرياض يجلبون الماء منها سنة 1356هـ على الحمير والجمال حسب اتفاقهم مع السّقّائين، وذلك لعذوبة ماءها، وأمّا عامّة آبار مدينة الرياض فمالحة، وأعذب المياه وأحلاها: مياه الباطن والبديعة، ومنها يشرب جلالة الملك عبد العزيز والعائلة الملكية، ويُؤتى به في برميل خاصّ، مُثبّت في سيارة كبيرة، ثمّ يُقسم حسب المقادير المقرّرة (ص61). قلت: مدلول (الشمسيّة) يشمل البساتين المحيطة بتلكم الآبار، وأُنشئ في وسطها بناء مربّع الشكل، وفيه مركزٌ لاسلكي، وأحيط بسور كبير، وحُصّن بأبراج على كلّ زاوية من زوايا السّور المربّع، وأبراج أُخرى، ثمّ إنّ الملك عبد العزيز أمر بتشييد قصورٍ داخل ذلكم السّور، وسُمّيت قصور المربّع (يُنظر: أحمد الكاظمي (يوميات الرياض)، ص(94))، وأمّا ابن بليهد فعهده بـ (المربّع) أنّه بئرٌ بُني عليها قصر الملك عبد العزيز، وسُمّيت باسمه (ما (164)). قلت: توسّع مدلول اسم (المربّع) ليشمل قصور الملك عبد العزيز وأبناءه، وحيّ كبير من أحياء مدينة الرياض، ومن المفارقات في حراك مسمّيات المواضع: أنّ مدلول اسم (حَجر) كان يشمل مفاوز ومنازل، ثمّ تضاءل شيئاً فشيئاً، وآخر العهد به أنّه تشبّث ببئرٍ بين شارع البطحاء وشارع الملك فيصل، ثم تلاشى، ولم يعد له ذكرٌ (يُنظر: حمد الجاسر (الرياض عبر أطوار التاريخ)).
ومعهود ابن بليهد عن (الوشام) أنّه طرف جبل يُشاهده الخارج من دروازة ابن سويلم، قال: (وُصِفَ بالوشام الذي تستعمله الأعراب على جهة من الكفّ) (ما (96))، و(القرينين) تملّكه الملك عبد العزيز، وتداولته الأيدي إلى أن آل ملكه للأمير نواف بن عبد العزيز، وباعه بأربعة ملايين ريال (ما (35))، قلت: أفاد السليمان في معجم مدينة الرياض أنّه كان نخلاً حتى سنة 1370هـ، وأنّ موقعه بين شارع الشميسي الجديد، وشارع الشميسي القديم (ص67).
وممّا استطرد فيه ابن بليهد غير ما تقدّم: تذكّر أيّامه مع رفيقه وجليسه، وصاحبه وأنيسه، الأمير الفيصل بن الملك عبد العزيز، يتذكر صيدهما الظّباء، لمّا كان في نجدٍ ظباء، ونعام، وريم، وكانت الحُبارَى ربما تُرى كأسراب الجراد كثرةً (ما (189)، و(262)، و(265))، فهذا طريق سلكه الفيصل، وذاك جبل رقاه، وتلك (هضيّبة فيصل)، قيّل فيها حادراً أو سانداً (ما (35))، وتيك ماءةٌ شرب منها، والمعابدة التي في مكة؛ هي التي فيها قصر فيصل (ما (26))، و(الخندمة) في أبطح مكة؛ هي المجاورة لبيت فيصل (ما (75))، يقول: (كنت والفيصل على صفاة، في وادي الرّخم، وعُرف ذاك الوادي بجريان مائه ستة أشهر إذا كثرت الأمطار، وترتاده بادية تلك النواحي للسقي، وفاجأتهما امرأةٌ جميلة تركب حماراً، ومعها قربتان تريد ملأهما، وتقترب منهما بكل ثبات، والفيصل متبسّطٌ في لبسه، مُستغنٍ بغترته عن العقال المقصّب، وكان حينها نائباً للملك على الحجاز، فسألها: تسقين وحدك، ألا تخافين؟ فأجابته، وهي لا تعرف أنّه الفيصل: (ممّن أخاف؟ الله يخلّي لنا فيصل، ما دام أبو عبد الله موجود؛ فلن يعتدي علي ولا على غيري أحد)، وسَقَت، وانصرفت (ما (254)، وينظر: صحيح (4/ 225))، وممّا أشاعه عن الأمير فيصل قبل توليه الملُك: كمال عقله، وحكمته، وبرّه، وإحسانه، فإنّ قبيلتين حديثتي عهدٍ باستقرار؛ اختصمتا على بئر ماء، ورأى الفيصل في خَلَل رمادِ تاريخهما وميضَ جمرةٍ ينفخ فيها الشيطان، فاشترى البئر من ماله، وأوقفه لله تعالى، وانطفأت بأوّل سقيٍ منه جمرة الشيطان (ما (243)، وينظر: صحيح (5/ 87))
وأكثر ما استطرد فيه ابن بليهد أيضاً: ذكر صحبته للملك عبد العزيز، والمواضع التي نزلها، قال عن (الفروق): (نزله الملك في ليلة اليوم الذي استردّ فيه الأحساء، وتمّ الفتح في ثلاثة أيام، وكنت صحبته) (4/ 34)، و(المجصّة): (قرب الأحساء، قَطَن فيها الملك في بعض غزواته) (4/ 52)، و(رضا): (منهل ماء، وردتُه وأنا في صحبته في بعض غزواته) (4/ 251)، و(شار): (دارت فيه معركة بين الملك وابن رفادة) (4/ 105)، و(الشرم): (اجتمع فيه الملك عبد العزيز بالملك فاروق) (ما (248))، و(شماليل): (أعظم مظماة، وأمر الملك بحفر بئر فيها، فلم تعد مهلكة كما كانت) (4/ 271)، وذكر مرّةً سبور الملك عبد العزيز، وهم المستطلعون له في غزواته، قال: (إذا طلعت نجمة الفجر فإنّها موعد سبور الملك، يطلقون الرصاص) (ما (36))، واستطرد مرّةً بذكر نادرة للملك عبد العزيز لمّا دخل الرياض الدخول الأول سنة 1318هـ، ومناسبتها: كلامه عن موضع اسمه (الطّرفيّة)، فإنّ الملك فارق والده في موضع يُسمّى (اللصافة)، واتفقا على علامة يعرف بها عبد العزيز أنّ والده هُزم، وعليه الخروج من الرياض وهو أن يرسل إليه رجلاً يُصافحه، ويقرص رأس خنصره الأيسر، ثم سار عبد العزيز إلى الرياض، ودخلها، وحاصر أميرها لابن رشيد، واسمه: عبد الرحمن بن ضبعان، وتوجّه الإمام عبد الرحمن لحرب عبد العزيز بن رشيد، صُحبة مبارك الصباح، وآل أبا الخيل، وآل سليم، وحصلت عليهم الهزيمة بعد العصر، في معركة الصّريف، ويقال لها: الطّرفية أيضاً، وخرجت كتيبةٌ من الجيش المنهزم، وفيها بعض شيوخ عشائر البادية المشاركين، وتوجّهت إلى نفود الدويحرة، ونزلوا ليستريحوا، وأشعلوا النّار، وهمّوا بأكل تمر معهم يسدّون به جوعهم، فإذا بأربعة خيّالة يتبعونهم، وهم الإمام عبد الرحمن وثلاثة معه، فدعوه، وأكل معهم، ثمّ طلب منهم رجلاً يُعتمد عليه، وراحلةً طيّبة، ووعده ثلاثين ريالاً فرنسيّاً، وقال: (أريد أن أُرسله إلى ابني عبد العزيز). قالوا: وأين هو؟ قال: (في الرياض). فضمن له الشيوخ واحداً، وأشاروا عليه بأن يكتب معه كتاباً، إلا أنّ الإمام بَرَزَ به، ولم يطلب منه إلا أن يُصافح الملك عبد العزيز، ويقرص رأس خنصره الأيسر، وكان ذاك البدويُّ حازماً، أميناً، فتوجّه إلى الرياض، ودخلها، وصافح الملك، وقرص رأس خُنصره الأيسر، فصرفه الملك، ثم أظهر لمن حوله أنّه يريد الإغارة على قوم في جهة الخرج، وخرج من الرياض، وورد (وسيع)،م كشف لمن معه أنّه سيتوجّه إلى الكويت، وليس هناك من يغزوهم (ما (161- 162)، وإبراهيم بن عيسى (عقد الدرر)، ص116).
واستطرد ابن بليهد، فذكر انفلات الأمن في نجد في أوّل عهده، وأنّ النّاس في مفاوزها كان يأخذ بعضهم بعضاً، ولا يكاد أحدٌ يقطع مسافة إلا برفيق أو خوي، بأُجرة، وجرى فيهم مثلٌ: (نجد لمن طالت قناته)، ثمّ إنّ الله تعالى بسط الأمن على يد الملك عبد العزيز، وانقطعت تلكم العادات، ولم يعد لأحد قناة غير قناة عبد العزيز ((5/ 90، 281)، (4/ 3)، (2/ 126-132)، والجهيمان (الأمثال الشعبية) (8/ 299))، وذكر أمن الحجّاج أيضاً قبل الملك عبد العزيز وبعده، وقارن بين العهدين، وشكر الله تعالى على أن أراه عهد عبد العزيز الذي لم يرَ كعهده ((2/ 152-155)، (4/ 168، 196، 250)).
هذه بعض فوائد الكتابين، ولم يسمح المقام بأكثر، ولعلّ ما ذُكر؛ يدعو لقراءة الكتابين ولقط الدّرر منهما، رحم الله ابن بليهد.
** **
- باحث في العلوم الشرعية والتاريخية.