د. عبدالواحد الحميد
فقدت منطقة الجوف أحد أعلامها البارزين ورموزها الذين قدموا خدمات جليلة للمنطقة على مدى عقود طويلة من الزمن، فقد رحل الأستاذ إبراهيم بن خليف السطام في اليوم الثاني من عيد الفطر المبارك 1444 الموافق 22 أبريل من هذا العام 2023، وشاركت جموعٌ غفيرة في الصلاة عليه وتشييعه إلى مثواه الأخير على الرغم من تزامن الحدث مع ظروف وارتباطات العيد وانشغالات الناس في مثل هذا الوقت.
ويمثِّل رحيل الأستاذ إبراهيم منعطفاً فارقاً في ذاكرة المجتمع الجوفي بما يرمز إليه الراحل الكريم في تحولات التنمية بالمنطقة وما كان له من دور مهم فيها، وبخاصة في مجال التربية والتعليم والخدمات الاجتماعية والبلدية والثقافية. وقد عاصر الأستاذ إبراهيم تلك التحولات وتفاعل معها منذ صباه إلى أن غادر عالمنا وهو في التسعينيات من العمر دون أن يمنعه التقدم في السن من المشاركة في الأنشطة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في المنطقة.
بدأ الأستاذ إبراهيم رحلته مع التعليم قبل انتشار التعليم المنهجي الحديث في المنطقة، فقد درس القرآن الكريم والعلوم الدينية على يد الشيخ فيصل بن عبدالعزيز المبارك، وحفظ القرآن الكريم في تلك السن المبكرة. وقد لفتتْ نباهةُ الفتى الصغير شيخَه فَرشَّحه للتدريس في المدرسة التي تم افتتاحها في بلدة الطوير بسكاكا ولم يكن قد حصل على تعليم نظاميٍ بَعد، فبدأ مشواره مع التدريس اعتماداً على ما تلقاه في الكُتَّاب من علوم دينيه على يد الشيخ فيصل. ولم تكن تجربته في خوض غمار التدريس سهلة، فكانت العقبة الأولى التي واجهها هي اختلاف متطلبات ومناهج التعليم عمّا تلقّاهُ في الكُتّاب، لكن الأصعب من ذلك هو أنه كان عليه أن يقطع مسافات طويلة مشياً على الأقدام كل يوم من منزله في حي الشلهوب في سكاكا إلى قرية الطوير إلى أن تحسنت الأحوال وتمكن من اقتناء دراجة هوائية لاستخدامها في مشواره اليومي المضني.
وكان على المعلم الصغير أن يصارع الظروف العائلية الصعبة، حيث كان والده الكفيف يعتمد عليه في أداء الكثير من الأمور الحياتية، ولم تكن والدته إلى جواره بسبب انفصال الوالدين منذ أن كان طفلاً في الثالثة من العمر. ورغم قسوة تلك الظروف، تمسك الفتى بوظيفته الجديدة وأضاف إليها عبئاً آخر وهو الالتحاق بالتعليم النظامي عن طريق ما يسمى بنظام المنازل، فحصل على الشهادة الابتدائية، عابراً طريقاً طويلاً في تحصيل التعليم وهو الطريق الذي سلكه فأكمل الدراسة المتوسطة والثانوية بنظام المنازل أيضاً، وحصل في فترة لاحقة على شهادة البكالوريوس في الإدارة مكملاً حلمه الكبير في استكمال تعليمه الجامعي.
وعلى امتداد حياة الأستاذ إبراهيم كان يرى أن انتماءه المهني ورسالته الكبرى هي في مجال التربية والتعليم حيث بدأ مشواره معلماً في مدرسة صغيرة مكونة من فصلين، ثم تدرج في سلك التعليم من معلم إلى مراقب ثم إلى وكيل مدير ثم إلى مدير مدرسة، وواصل مشواره في نفس المجال، حيث تم تعيينه مفتشاً إدارياً لمدارس الجوف والقريات والحدود الشمالية، ثم مديراً لمكتب التعليم بالجوف، ثم مديراً لمكتب الإشراف على التعليم في منطقة الجوف والقريات وعرعر.
وعلى الرغم من تعلقه بحقل التربية والتعليم إلاّ أنه في مرحلة لاحقة استجاب لرغبة رسمية في أن يتولى رئاسة بلدية الجوف، فانتقل إلى قطاع البلديات على غير رغبة منه، واستمر في مجاله الجديد حتى تم تعيينه مديراً عاماً للشؤون البلدية والقروية في الجوف وتبوك والحدود الشمالية والقريات، بالتزامن مع عمله كمدير لإدارة تخطيط المدن والإدارة الهندسية في المنطقة الشمالية والإشراف على مشروع كهرباء الجوف.
وعندما تقاعد الأستاذ إبراهيم من العمل الحكومي لم ينكفئ وينعزل عن الإسهام في تنمية وخدمة مجتمعه، بل واصل إسهاماته من خلال عضويته في مجلس المنطقة، وكذلك من خلال العمل في قطاع آخر رآه مكملاً للقطاع الحكومي وهو القطاع الخاص بالإضافة إلى أنشطته ومساهماته في القطاع التطوعي والثقافي.
ففي مجال القطاع الخاص كان الأستاذ إبراهيم أحد مؤسسي شركة الجوف للتنمية الزراعية، وهي شركة زراعية مساهمة كبرى، وكان عضواً في مجلس إدارتها ثم مشرفاً على إدارتها، ورئيساً للجنة التجارية في الغرفة التجارية بالجوف، ومارس العمل التجاري في مشاريعه الخاصة.
وفي المجال التطوعي كان للأستاذ إبراهيم إسهامات عديدة، فكان عضواً في مجلس إدارة جمعية البر الخيرية بالجوف، وجمعية أصدقاء المرضى وجمعية الأطفال المعاقين، وغيرها.
وفي المجال الثقافي كان له حضورٌ كبيرٌ، فقد كان متابعاً للشأن الثقافي وعضواً فاعلاً في النادي الأدبي وبخاصة من خلال رئاسته للجنة المنبرية في النادي حيث عُرِف بإجادته لفن الخطابة والارتجال الشفهي، كما كان عضواً في المجلس الثقافي لمركز عبدالرحمن السديري الثقافي. وكان معروفاً بحبه للقراءة والاطلاع واقتناء الكتب وحازت مكتبته المنزلية على جائزة تقديرية من جامعة الجوف، وهي مكتبة تحتوي على آلاف العناوين ومفهرسة وفق الأساليب المتعارف عليها في علم المكتبات. وقد أسهم في إثراء الأنشطة الثقافية بالمنطقة من خلال مشاركاته العديدة في الأمسيات والندوات الثقافية، وألف العديد من الكتب في مجال التربية والإدارة والأنساب والتاريخ، ومن أبرزها كتابه المرجعي «مسيرة التعليم في منطقة الجوف: تاريخ وسير وذكريات» وكتابه المرجعي الآخر «منطقة الجوف: أرض التاريخ والثروات والحضارة»، وغيرهما.
ونظراً لفصاحته ومهاراته الخطابية كان كثيراً ما يتم اختياره لإلقاء الكلمات الترحيبية بضيوف المنطقة باسم الأهالي، ومن ذلك كلمة الأهالي الترحيبية التي ألقاها أمام المغفور له الملك سعود بن عبدالعزيز عندما زار منطقة الجوف في عام 1373هـ وكلمة أهالي المنطقة أمام -المغفور له - الملك خالد بن عبدالعزيز في الرياض عام 1397هـ عند عودته من رحلة علاجية ضمن وفد المنطقة الذي ذهب إلى الرياض مهنئاً.
وقد عُرِف عن الأستاذ إبراهيم بره الشديد بوالديه، فمنذ طفولته المبكرة كان والده الكفيف -رحمه الله - يعتمد عليه في شؤون الحياة اليومية بما في ذلك مساعدته في ذهابه وإيابه من وإلى المسجد والسوق وحضور المجالس والمناسبات الاجتماعية. وبسبب رغبته في خدمة والده وعدم تركه وحيداً رفض العروض الوظيفية التي أتيحت له خارج منطقة الجوف، ومن ذلك رفضه لمنصب رئيس بلدية الدمام وبلدية الطائف في حياة والده.
وقد حصل الأستاذ إبراهيم خلال مشواره الوظيفي الطويل في القطاع الحكومي وفي القطاع الخاص والأعمال التطوعية الإنسانية والثقافية على العديد من شهادات التقدير، كما حصل على أكثر من ذلك وهو التقدير والمحبة التي يحملها له الناس الذين عرفوه في منطقة الجوف وخارجها، ويبقى بعد ذلك التقدير الذي تنادى الكثيرون من عارفي فضل الرجل لتحقيقه، وبخاصة من قبل وزارة التعليم أو الجهات ذات العلاقة، بإطلاق اسمه على إحدى مدارس المنطقة اعترافاً بجهوده الكبيرة في مجال التربية والتعليم، أو غير ذلك من أشكال التكريم مِن قِبَل الأجهزة الحكومية والأهلية والثقافية التي عمل فيها أو أسهم في أنشطتها.
جمعتني بالراحل الكريم العديدُ من المواقف والذكريات منذ أن كنت تلميذاً في المرحلة المتوسطة عندما كان -رحمه الله - مديراً للتعليم، فقد أجريت معه لقاءات للإذاعة المدرسية ولجريدة الندوة التي كنت أراسلها من الجوف، وأذكر له بكثير من الامتنان تزويدي بأخبار القطاع التعليمي مما كنت أرسله في مرحلة لاحقة لبعض الصحف ومنها جريدة الجزيرة. وكنت كغيري من الطلاب أجد منه التشجيع والمؤازرة، وقد ظللتُ على علاقة وتواصل معه منذ أيام دراستي المتوسطة إلى ما قبل وفاته بأسابيع قليلة، فتحولت تلك العلاقة إلى صداقة تغلفها المودة والإعجاب من جانبي، وكنت أحرص على زيارته ولقائه والاستمتاع بالحوار معه، وكان كثيراً ما يبادر بالاتصال بي هاتفياً لمناقشة قضية فكرية مما يدور على الساحة الثقافية فأُدهش لغزارة معلوماته ومواكبته المتجددة رغم أعباء العمر ومعاناته مع المرض.
رحم الله الأستاذ إبراهيم بن خليف السطام وأسكنه الجنة وجزاه خير الجزاء على ما قدمه للأجيال المتعاقبة التي تخرَّجت من مدارس الجوف على مدى عشرات السنين وما قدمه لمجتمعه من إسهامات في مختلف المجالات.