عبدالوهاب الفايز
الحق أقول لكم.. حينما يأتي الحديث عن البيئة وهمومها وتحدياتها، فثمة متعة متولدة للحديث، وربما مبعث هذا الشعور هو تلك المشاهد والتفاعلات التي شهدناها في الشهور الماضية، حيث ازدهرت البراري وتفتحت الأزهار واستمتعنا بعبق البختري الخزامى في الأودية والفياض.. وهذا يذكرنا بقصيدة ابن لعبون الشهيرة:
سقى غيث الحيا مزن تهامى
على قبر بتطلعات الحجازي
يعط بها البختري والخزاما
وترتع فيها طفلات الجوازي
وربما حالة الفرح بالطبيعة المزدهرة والخضرة المتنامية في برارينا ومدننا لها ما يبررها، فالخضرة مؤشر الخصب والجود في الحياة، والأبحاث العلمية المتسارعة في السنوات الأخيرة وجدت علاقة إيجابية بين الأنشطة الحركية المرتبطة بالطبيعة مثل رياضات المشي وبين مشاعر السعادة والصحة النفسية ومقاومة ضغوط الحياة اليومية في المدن. وهذا يفسر الاهتمام الكبير بتنمية الخضرة في الحواضر السكنية المزدحمة.. والحمد لله أننا الآن في سباق مع الزمن لرفع مستوى الخضرة في مدننا، وبلادنا أطلقت (مبادرة الشرق الأوسط الأخضر).
وكما قلنا الأسبوع الماضي أن النجاحات التي حققها قطاع البيئة في المملكة تعود إلى الجهود التي بذلتها الحكومة لمواجهة المشاكل والتحديات التي تراكمت في هذا القطاع، ومن أبرز التحديات ضرورة إعادة توطين الحيوانات المنقرضة من الجزيرة العربية، وكذلك المحافظة على المتبقي منها وإكثاره وحمايته.
ومن الحيوانات التي انقرضت في الجزيرة العربية لأكثر من نصف قرن الفهد العربي أو الفهد الصياد، وهذا الحيوان ظل أقرب المفترسات إلى الإنسان في الجزيرة العربية، وفي التاريخ العربي القريب والبعيد موروث أدبي وشعري غزير يتحدث عن هذه العلاقة. لم أكن أتوقع سعة ونوعية هذه العلاقة الحميمية بين الفهد والإنسان!
في الأسابيع الماضية وخلال البحث والاطلاع لإعداد هذه المقالات وجدت متعة خاصة في رحلة الاكتشاف لهذه العلاقة، وحقيقة شعرت بالأسف الشديد لحالة العدائية التي مارسها الإنسان في العقود الماضية تجاه هذه الحيوانات التي أوجدها الله سبحانه وتعالى لكي تكون عوناً للإنسان في كل شؤون حياته. وفي الكتاب الكريم: وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ . وعموماً الذي يقف على البعد الثقافي والتاريخي للفهد العربي يجد جزءًا من الموروث الثقافي لإنسان الجزيرة العربية ارتباطاً قويًا مع الفهد كما دلت النقوش القديمة وقصائد الشعراء.
في بلادنا، بناء هذه العلاقة الإيجابية بين الإنسان والكائنات الحيَّة البرية والبحرية، تجد الدعم والاهتمام الكبيرين الذين تستحقانه، فبرامج التوطين للحيوانات والطيور والكائنات البحرية نراها تتوسع في مشاريع المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية. والفهد العربي يجد الاهتمام الخاص من المركز، وأبرز إنجاز تحقق في أغسطس العام الماضي حين أعلن المركز عن اكتشاف مومياوات لـ17 فهداً صيّادًا في أحد الدحول الموجودة في سهول محافظة رفحاء شمال المملكة. وذكر المركز حينها أن هذا الكشف يوفر عيّنات نادرة جدًا من الفهد الصيّاد الذي كان موجودًا في الجزيرة العربية.
وهذا الاهتمام الحكومي بهذا الحيوان سوف يواكب الاهتمام العالمي لحماية الفهود من الانقراض. ويقدم رسالة حضارية عن الشعب السعودي، ويقدم للعالم القيم والتعاليم الإسلامية التي تنص على حماية البيئة بكل مكوناتها. والمختصون في المنظمات والمؤسسات الأهلية الخيرية والعلمية في اغلب دول العالم ومنذ سنوات يكثفون الأبحاث وبرامج الإكثار والحماية للفهد الذي يعد من أقدم الحيوانات المعاصرة. يقدّر العلماء ظهورها قبل ما يُقارب 200.000 سنة، ونمت سلالات منه في عدة قارات، والعلماء ما زالوا يتوسعون في دراسة عدد ونوع السلالات. وهناك أبحاث تتناول إمكانية تهجين الفهد مع أنواع الحيوانات الثديية مثل الأسود والنمور، والفهود، والقطط الأليفة والبرية. وتهتم الحكومات بالفهود ليس فقط لإعادة التوازن البيئي، بل لأسباب سياحية اقتصادية مثل أهميته لتحقيق عوائد مالية للمحميات والمنتزهات وحدائق الحيوان، فالسيَّاح يهتمون بمشاهدتها ويدفعون المال للسفر إلى موائلها الطبيعية لرؤيتها حين تفترس طرائدها، ويستهويهم معرفة كيف تعيش مع الضواري الأخرى. والجميل في سلوك وطبيعة الفهود أنها أقل الحيوانات عدائية للإنسان، وتحوي مراجع الأدب العربي ما يشير إلى أن من (خُلق الفهد الحياء)، والإنسان كان يستثمر هذا الخلق للنجاة من خطره بالذات النساء. وقديمًا تم استئناس الفهود واستخدمها في الصيد من قبل العديد من الشعوب، وفي الوقت الحالي فإن استئناسها واستخدامها في الصيد محصور بيد قلة من الأثرياء الذين يمارسونها كأجدادهم من دافع المحافظة على التراث.
واستكمالًا وتماشيًا مع هذه الجهود والاهتمامات، وبما أننا اليوم نحتفي بورشة علمية ينظمها المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية تتناول أحد أبرز الاكتشافات في الحياة الفطرية في الجزيرة العربية، وستكون تحت عنوان: (الفهد في السعودية: من المومياء إلى إعادة التوطين)، نتطلع إلى إنشاء صندوق للفهد العربي (كما هو الحال مع الصندوق الذي أنشأته الهيئة الملكية للعلا «صندوق النمر العربي» وخصّص له 25 مليون دولار.
وكذلك نتطلع إلى إنشاء (جمعية خيرية متخصصة) تعتني بالحيوانات المنقرضة، وتعمل على تحريك الجهود الأهلية والشعبية، وتتولى إجراء الدراسات والأبحاث، وتنظيم برامج التوعية والتثقيف، وبرامج التطوع، وإطلاق الأنشطة التجارية لتسويق منافع برامج توطين الفهد، مثل تصميم التحف والمنحوتات والملابس، أي تسويق الفهد كعلامة تجارية. وهذه الجهود الأهلية ستكون مسنودة بالخبرة الفنية والعلمية التي لدى المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية.
ومثل هذا الصندوق موجود عالمياً، فقد قام بعض الباحثين ومحبي الحياة البرية عام 1990 بتأسيس جمعية صندوق الحفاظ على الفهود في ناميبيا، ليكون مصدر التمويل العالمي الأول لجميع مشاريع الحفاظ على الفهود، ويعمل أفراده على تثقيف أصحاب الأراضي والمزارعين والقرويين الذين يشاركون الفهود موطنها وإقناعهم باللجوء إلى أساليب أخرى غير فتاكة لحماية مواشيهم وقصر رعي الأخيرة على مناطق محددة دون الأخرى كي يبقى للفهود مخزونًا كافيًا من الطرائد البرية.
لعل هذه الآليات المقترحة تكون في أولويات التوصيات التي تنتج عن مداولات ونقاشات ورشة العمل اليوم. فنحن بحاجة ماسة لإعادة توطين الحيوانات الأصيلة في جزيرة العرب، وهذا المسار سوف يأخذنا لاستعادة العلاقة والجدلية الحميمية بين الإنسان والأرض.