عبدالرحمن الحبيب
«المصطلحات السيئة هي عدو التفكير الجيد»، كما يقول لوارن بافيت، الذي يطلق عليه حكيم أوماها المدينة الأمريكية. ما يعنيه بافيت هو أن المصطلحات سيئة التصميم تعيق الناس عن اتخاذ قرارات معقولة وفهم الأشياء، فكيف إذا مرّ العالم بمرحلة تغيير حادة يصعب فيها الفهم؟ ففي الوقت الذي اعتقد به كثيرون أن العالم الجيوسياسي انحسر مع العولمة ومع تطورات العالم الرقمي الذي أزاح حواجزَ واختصر مسافاتٍ، فإن ثمة صراعاتٍ جيوسياسية جديدة تشتعل مقابل قديمة تخمد، وثمة حماية اقتصادية تتنامى مقابل عولمة اقتصادية تنحسر «أعتقد أنه لا يزال صحيحًا أن الصراعات بين القوى الكبرى تنبع عادة من التنافسات الجيوسياسية ولكن نادرًا ما تنبع من المنافسة الاقتصادية» روبرت كاجان أكاديمي ومنظر سياسي.
التغييرات الهائلة التي تحدث في عالم اليوم وتتغير معها الجغرافيا السياسية، لتنبثق اتجاهات وعلاقات وبيئات وأنظمة جديدة، فتظهر مصطلحات جديدة أو مصطلحات كانت على رأس الأخبار ثم تراجعت والآن تعود من جديد للواجهة مثل مصطلح الحرب الباردة، أو تتعدل مصطلحات موجودة وتأخذ معنى جديدًا، وقد تتفرع من كل ذلك مصطلحات جديدة.. تم تناول بعض المصطلحات في المقال السابق، وسنتناول بعضًا منها هنا وفي مقال لاحق.
يقول ريتو كويني كبير الاقتصاديين في شركة فونتوبيل للاستشارات الاستثمارية: «منذ صعود الصين كقوة عالمية جديدة، أصبح مصطلح الجغرافيا السياسية مهمًّا مرة أخرى كما كان خلال سنوات الحرب الباردة... كمستثمرين، نحن بحاجة إلى أن نكون على دراية بالتحولات الجيوسياسية التي يمكن أن تهز الأسواق وأسعار الأصول والاستعداد للاتجاهات التي يمكن أن تتحول إلى حقائق جديدة». وسنلخص هنا جزءًا من المصطلحات التي يطرحها مع بعض الإضافات.
عاد مصطلح الحرب الباردة للظهور بعد اندثاره عام 1991 عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، والمصطلح أساسًا يشير إلى استخدام الاقتصاد والسياسة والدعاية والتجسس في الصراع بدلًا من العمل العسكري المباشر أو حتى أي إعلان رسمي الحرب حتى عندما خاضت الحروب بالوكالة، كما في فيتنام وأفغانستان وكوريا.
بدأ البعض في استخدام مصطلح الحرب الباردة الثانية لوصف بعض التوترات العالقة بين الدول، لا سيما بين الولايات المتحدة والصين، ولكن أيضًا الحرب في أوكرانيا والتوترات الدولية التي تلت ذلك دفعت بتأصيل مصطلح الحرب الباردة الثانية التي تشابه الأولى جيوسياسيًّا، حيث إنها مرة أخرى تضع الغرب في مواجهة الشرق، خاصةً كمخاوف حول إعادة إيقاظ الصراع النووي. يحمل الصراع أيضًا أوجه تشابه مع الحرب الباردة الأولى لأنها تضع روسيا في مواجهة أوروبا والولايات المتحدة. هذا المصطلح تفرغ منه مصطلحات أخرى متعلقة بإعادة تشكل كتل ومحاور بين الدول وتفكك أخرى.
ظهر مصطلح تشكيل الكتل (Bloc formations) ليأخذ عدة تشكلات، فقد تكون كوحدة جغرافية مثل الاتحاد الأوروبي أو الاتحاد الإفريقي. لكن يمكن أن يشير أيضًا إلى مجموعة من البلدان التي تشترك في نفس القيم والأهداف والأيديولوجيات والتي قد توقع معاهدات، مثل منظمة حلف شمال الأطلسي، أو الناتو، التي تضم 30 دولة عضو في تحالف عسكري. وقد نرى مستقبلًا المزيد من التكتلات الاقتصادية الملموسة تتشكل حول القوى العالمية الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا.
مصطلح التفكك (Fragmenting) مع احتدام الحرب في أوكرانيا وعدم ظهور أي علامة على انحسارها، ازداد خطر تفكك العالم. قد يأخذ ذلك شكل بناء الكتلة الاقتصادية، كما تمت مناقشته أعلاه، والدول التي تتماشى مع الأيديولوجيات والأنظمة السياسية ومعايير التكنولوجيا، وفقًا لصندوق النقد الدولي.
في هذا السياق عاد مصطلح القومية بشكله المتطرف في الأيديولوجيا السياسية الذي يرى أن أمة الفرد فوق الأمم، بحجة اجتماع الأشخاص معًا كهوية أو عرقية مشتركة يهددها الآخرون. يؤدي هذا إلى قيام الجماعات القومية بالتعبير عن كراهية الأجانب والتأييد للسياسات المناهضة للهجرة لأنهم غالبًا ما يرون الأجانب إما كمنافسين على الوظائف أو كأعباء متخلفة أو ضعيفة تحتاج إلى مساعدات مالية. يمكن أن يؤدي ذلك إلى مزيد من السياسات الانعزالية التي تعرقل التعاون العالمي بين الدول والمنظمات الدولية.
يرتبط بالقومية برابط وثيق مصطلح الشعبوية، لكن الأخيرة تختلف بزعمها أنها تتحدث إلى «الشعب» وتصور «النخبة» على أنها مجموعة تتجاهل احتياجاته وتجعل حياته أسوأ. يحاول الشعبويون استحضار مشاعر الفخر والخوف والغضب بين قاعدتهم الشعبية، بحيث يشعرونهم بخطر الآخرين سواء من الأجانب أو الأقليات مما يخلق الانقسام بين السكان.
من أقصى اليمين القومي والتذمر الشعبوي تأخذ نظرية المؤامرة حيوية جديدة، حيث «الآخرون يتآمرون علينا»، ليظهر مصطلح جديد: «ما بعد الحقيقة» (Post-truth) يشير إلى الظروف التي تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيرًا في تشكيل الرأي العام من نداءات العاطفة والمعتقدات الشخصية التي يحفزها عدد متزايد من الأشخاص الذين يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر للأخبار والمعلومات ورفض الحقائق الصادرة عن الحكومات والمؤسسات. أعلنت قواميس أكسفورد أن الكلمة العالمية في عام 2016 كانت «ما بعد الحقيقة»، مشيرة إلى زيادة استخدامها 20 ضعفًا مقارنة بعام 2015. وقد ظهرت في تلك السنة وسط انتخابات دونالد ترامب الرئاسية والتصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.