عادل علي جودة
مشهد باك
وحروف مدادها نار
ودمعة حارقة؛
ألهبت وجنتي،
ومزقت مهجتي،
وأشعلت في الصدر ألف آه
المشهد لمقطع صغير مجتزأ من لقاء مصور مع (الفنانة الأردنية القديرة جولييت عواد) تتحدث فيه عن قرار قديم اتخذته بعدم الإنجاب، ولمّا سألتها المذيعة عن سبب اتخاذها لهذا القرار، أجابت أنها لم تتخذ هذا القرار لأنها لا تريد الإنجاب، إنما جراء تلك الجريمة البشعة التي ارتكبت في صبرا وشاتيلا، وما رأته من قتلٍ للآمنين من رجال ونساء وأطفال، ثم أشارت على وجه الخصوص إلى ذلك الشعور الذي اجتاحها قائلة: «أكثر مشهد أثّر فيَّ لما حطوا مجموعة من الأطفال في الجرَّافة وزتُّوهم (وقذفوهم) في البحر، فكان القرار خلاص؛ أنا ما بدي أخلف».
ثم أرادت المذيعة أن تكشف عن وجعها جراء هذا القرار، فسألتها بلهجتها الحزينة «وما بدك تجيبي أولاد على الحياة؟»، فأجابت (جولييت): «لا»، واستأنفت والغصة تملؤها: «ومين بدو يحميهم؟»
فيا لها من قسوة حارقة! ويا له من تساؤل خانق!
تسألها المذيعة من جديد عما إذا شعرت بالندم على هذا القرار، فتجيب (جولييت) أنها بالتأكيد ندمَت، تقول: «ندمت مش عشان أمومتي، لا، ندمت بعد ما صارت الانتفاضة الأولى، قعدت، فكرت، وقلت «يا الله»؛ إذا كل أم خافت على أولادها؛ مين بدو يحمي الوطن؟!»
حينئذٍ فرت دمعتي وأنا أهمس داخلي: يا إلهي؛ كيف جاء هذا السرد الدامع بكل هذا العمق؟! كيف جاء الارتجال على هذا النحو من القوة في إبراز مكانة الولد؛ إذ تمتنع عن إنجابه خوفًا عليه، ثم تعلن الندم وهي تبرز مكانة الولد من أجل حماية الوطن؟!
سألتها المذيعة بحزن أشد: «مين أولادك هلا؟»، أجابت (جولييت) وهي تحاول أن تحبس دمعها: «هلا أولادي حبيبيني؛ اللي بيقاوموا»، ثم أردفت وهي تبتلع غصتها مع ما تبقى من ريقها: «أنا كل يوم عندي أبناء شهداء»، ثم انهارت أمام دمعها الذي انتثر على خديها، ثم بِصمْتِ الألم أقفلت شفتيها وهزت رأسها للأسفل والأعلى، وكأني بها تقول؛ نعم إني أبكي، نعم إني أذرف الدمع نارًا تحرقني لوعةً على الأبناء، وحسرةً على الوطن.
ومع صمتها راح الشخص - الذي أشرف على إخراج هذا الفيديو - يضيف إلى هزات رأسها، وإلى حبات دمعها، رنينَ الصوت الساكن فينا، وأنينَ البوح النازف منّا، وتناهيدَ الروح المكسوة بالوجع، للثائر الأشم الشاعر محمود درويش وهو يُنشد بعضًا من آهات قصيدته الخالدة «نَحْنُ أَحْيَاءٌ.. وَبَاقُونْ.. ولِلْحُلْمِ بَقِيَّة»:
نَحْنُ مَنْ نَحْنُ
وَلَا نَسْأَلُ مَنْ نَحْنُ
مَازِلْنَا هُنَا
نَبْنِي مِنَ الْأَنْقَاضِ
أَبْرَاجَ حَمَامٍ قَمَرِيَّة
وَلَنَا نِصْفُ حَيَاةٍ
وَلَنَا نِصْفُ مَمَاتٍ
وَمشَارِيعُ خُلُودٍ وَهُوِيَّة
وَطَنِيُّونْ؛ كَمَا الزَّيْتُونْ
لَكِنَّا مَلَلْنَا صُورَةَ النَّرْجِسِ
فِي مَاءِ الْأَغَانِي الْوَطَنِيَّة
نَحْنُ أَحْيَاءٌ.. وَبَاقُونْ.. وَلِلْحُلْمِ بَقِيَّة
لله درك يا درويش.
وطوبى لك جولييت، طوبى لبحة نبرتك، طوبى لرجفة وجنتك وهي تحتضن دمعتَك.
** **
- عضو اتحاد الكتاب والأدباء الأردنيين