د. تنيضب الفايدي
اشتهرت عدة جبال في الجزيرة العربية لارتباطها ببعض الحوادث، أو لميزة تتميز بها عن غيرها، سواءً في مكة المكرمة مثل: جبل حراء لوجود غار كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعبد فيه قبل النبوة، وجبل النور لاختفاء النبي صلى الله عليه وسلم وخليله أبو بكر رضي الله عنه في غاره وقت الهجرة، أو في المدينة المنورة مثل: جبل أحد لوقوع الغزوة في ساحته والتي سميت نسبةً إلى هذا الجبل (غزوة أحد)، وجبل سلع لارتباطه بغزوة الأحزاب (غزوة الخندق)، وجبل عير لوروده في الأحاديث التي تحدد الحرم النبوي من الجنوب، أو جبال اشتهرت في الأماكن الأخرى في الجزيرة العربية، وقد أورد الشعراء بعضاً منها في أشعارهم لاستشهاد بعض الصفات في الممدوح، مثل جبل العلم بالقرب من صفينة، حيث خلّدته الشاعرة الخنساء فقد ذكرت في شعرها مشبهة أخاها صخراً به في شموخه وقوته:
وإن صخراً لمولانا وسيدنا
وإن صخراً إذا نشدت لنحار
وإن صخراً لتأتم الهداة به
كأنه علم في رأسه نار
ويقال إنه في زمن هارون الرشيد كانت توقد على قمته نار في فترة الحج ليستدل بها الحاج على الطريق.
وكذا جبل رضوى في ينبع فقد اتخذه كبار الشعراء رمزاً لخلود شعرهم، فها هو الشاعر المعجز أبو الطيب المتنبي يقول:
ما كنت أحسب قبل دفنك في الثرى
أن الكواكب في التراب تغور
ما كنت آمل قبل نعشك أن أرى
رضوى على أعناق الرجال تسير
وجبل في حائل حيث كان موقد النار لحاتم الطائي، فمن كرم العرب أنهم يشعلون النيران ليهتدي به المسافر إلى وجودهم فيأتون إليهم، وكان لحاتم الطائي غلام، يأمره بإيقاد النار على هذا الجبل حتى يراها الضيف من بعيد، فيأتي إليها، وقد وقف الكاتب على هذا الموقد فوق جبل وسط حائل حيث كان يقول لعبده:
الليلُ يا غُلامُ ليلٌ قِرُّ
والريحُ يا موقِدُ فيها صِرُّ
فأَجِّج النارَ لمنْ يَمُرُّ
إنْ جَلَبَتْ ضَيْفاً فأنتَ حرُّ
وجبل التوباد وقد اشتهر جبل التوباد بأنه مرتع صِبا قيس بن الملوح وليلى حيث خلد حبهما شعراً تتناقله الأجيال، حيث قال قيس بن الملوح في حبيبته ليلى:
أحبّ من الأسماء ما شابه اسمها
ووافقهُ أو كان منهُ مُدانيا
أَعدّ الليالي ليلةً بعد ليلةٍ
وقد عِشتُ دهراً لا أعدُ اللياليَ
أما جبل خزاز أو خزازى فهو متوسط الطول وله قمة تشبه سنام الجمل، وموقعه في قلب نجد، جنوب منطقة القصيم قريباً من دخنة، وقد اشتهر هذا الجبل لإيقاد النار عليه، خاصةً في وقعة قبل الإسلام بين اليمانيين والعدنانيين، سميت وقعة خزاز أو خزازى أو يوم خزاز على اسم هذا الجبل، وقد أوقدت النار عليه ليهتدوا بها أو لتجتمع القبيلة استعداداً للحرب، علماً بأن النيران عند العرب على أنواع، منها: نار الوَسْم، ونار الاستسقاء، ونار التحالف، ونار القيد، ونار الحرب، ونار الغدر، ونار السلامة، ونار الراحل، ونار الأسد على آخره... وأشهرها نارُ القِرى، قال الشاعر السفاح التغلبي حول إيقاد النار على جبل خزازى:
ولَيل بتّ أوقد في خَزاز
هديت كتائبا متحيرات
ضللن من السهاد وكنّ لولا
سُهاد القوم أحسب هاديات
وأكثر من خلّد جبل خزازى عمرو بن كلثوم حيث افتخر بانتصار قومه في هذا اليوم في معلقته فيقول:
ونحن غداة أوقد في خزازى
رفدنا فوق رفد الرافدينا
فكنّا الأيمنين إذا التقينا
وكانوا الأيسرين بنو أبينا
فصالوا صولة فيمن يليهم
وصلنا صولةً فيمن يلينا
فآبوا بالنّهاب وبالسبايا
وإبنا بالملوك مصفدينا
وتظهر هذه المعلقة مدى افتخار الشاعر بقومه ( قبيلة تغلب ) حتى وصل درجة الغرور فهم بعيدون عن البحر ومع ذلك مَلؤوه سفينا، وبعيدون عن الملوك ومع ذلك عادوا بهم مصفدين، إنه الغرور وحب الذات:
إذا بلغ الفطام لنا صبيٌّ
تخرّ له الجبابر ساجدينا
ملأنا البر حتى ضاق عنا
وظهرُ البحر تملؤه سفينا
لنا الدنيا وما أضحى عليها
ونبطش حين نبطش قادرينا
وقد ألهت هذه القصيدة بني تغلب عن المكارم ويحفِّظونها لأبنائهم:
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة
قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
وقال المهلهل عدي بن ربيعة:
لقد عرفت قحطان صبري ونجدتي
غداة خزازٍ والحتوف دوان
غداة شفيت النفس من ذل حمير
وأورثتها ذلا بصدق طعان
دلفت إليهم بالصفائح والقنا
على كل ليث من بني غطفان
ونظراً لوقوع جبل خزازى في قلب نجد، فإن أغلب شعراء المعلقات (وهم من نجد) وغيرهم ذكروا هذا الجبل، قال الحارث بن حلزة ذاكراً جبل خزازى:
آذنَتْنَا ببينها أسماءُ
رُبّ ثاءٍ يملُّ منه الثَّواءُ
بعدَ عهدٍ لنا ببرقة شمّا
ءَ فأدنَى ديارِها الخلصاءُ
فمحياة فالصفاحُ فأعْنا
قُ فِتاقٍ فعاذبٌ فالوفاءُ
فرياضُ القطا فأوديةُ الشرُ
بُبِ فالشعبتان فالأبلاهُ
إلى أن يقول بأن هنداً - صاحبته - أوقدت ناراً فرآها وهو بجبل خزازى:
فتنورتُ نارَها من بعيدٍ
بخزازى هيهات منك الصلاء
ويأمل الكاتب من الأبناء والبنات ألا تتجاوز أعينهم الأماكن السابقة لصعوبتها فهي مواضع غالية جداً أدبياً ووطنياً، وكم كان جبل خزازى موقداً للنار قديماً، إما استعداداً للحرب أو دليلاً للسائرين ليلاً، بل أدعو أبنائي وبناتي الطلاب والطالبات لزيارته والتمتع بعمقه التاريخي والأدبي، وكذا جبل كير وجبل قطن، ولاسيما أثناء الربيع، والجبلان الأخيران ليسا بعيدين عنه، وكتابة الأبحاث عن تلك المواقع التي تثير الشجن والحزن في آنٍ واحدٍ لغياب الثقافة المكانية والإهمال لكثير من المواطن الغالية.