عبدالوهاب الفايز
كما هو معتاد، يظل اهتمام الناس في اللغة العربية دومًا حاضرًا ومفعمًا بمشاعر الإشفاق والأسى على واقع يحمل صورًا وممارسات لعدم الاهتمام والاعتناء بلغة القرآن الكريم، بالذات تجاهل اللغة العربية في اللقاءات والمناسبات التي يكون أغلب حضورها من العرب الأقحاح, والحسرة تكون أكبر بالذات في المناسبات التي يشارك فيها مسؤولون حكوميون، فيلقون كلماتهم ويديرون حواراتهم باللغة الإنجليزية، فهؤلاء الأولى بهم الحرص على عدم مخالفة الأنظمة السيادية التي تنص على أن اللغة العربية هي لغة المناسبات.
والاهتمام المتجدد للغيورين على لغتنا باعثه الأساسي: (الخوف على الهوية الوطنية)، فهي مناط الأمر والغاية السامية، ومن وضعوا الوثيقة الأساسية لـ(رؤية المملكة 2030) لم يفتهم هذا الأمر الجوهري، فالرؤية تضمنت (ضرورة العناية باللغة العربية بوصفها جزءًا أساسيًّا من مكونات الهوية الوطنية).
وحتى هذا الوضع المؤسف لا يتماشى مع اهتمام المملكة باللغة العربية، فبلادنا سباقة في خدمتها محليًّا وعالميًّا. فهناك عشرات البرامج والأنشطة والكراسي والمبادرات والجوائز في الجامعات السعودية. ومنذ سنوات أطلقنا مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة اللغة العربية. ولخدمتها دوليًّا تدعم المملكة مساراتٍ للمنح في الجامعات غير العربية، ومنها مركز الأمير سلطان لتعليم اللغة العربية في الجامعة الحكومية في موسكو، ومركز الاستعراب في أذربيجان، وكرسي الأمير نايف للدراسات الإسلامية والعربية بجامعة موسكو. والمملكة كان لها دور لتمكين اللغة العربية على مستوى المنظمات الدولية.
وتوج هذا الموقف المشرف من اللغة العربية بإنشاء «مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية»، والذي وضع من أهدافه الأساسية العمل على تعزيز الهوية الثقافية العربية. وهذا الذي نذكره قليل من كثير يصعب حصره هنا.
أيضًا مجلس الشورى ومنذ سنوات وضع اللغة العربية من أبرز اهتماماته، فقد سبق أن صوت على مشروع «نظام تعزيز استعمال اللغة العربية» المكوّن من 18 مادة، (ويهدف المشروع إلى تعزيز استعمال اللغة العربية من خلال إلزام الجهات الحكومية وغير الحكومية باستعمالها، ووضع ضوابط محددة للحالات التي يجوز فيها استعمال غيرها، فضلًا عن زيادة اعتزاز أفراد المجتمع السعودي بلغتهم، بوصفها إحدى الركائز المشكِّلة لهويته). وحرص المجلس على المشروع حتى يسد (الفراغ التشريعي الموجود، المتمثل في عدم وجود نظامٍ متكامل يعزِّز استعمالها «أي العربية»).
وأيضًا الأسبوع الماضي لم ينس أعضاء المجلس التطرق لهذا الأمر حين سنحت الفرصة، ففي نقاش التقرير السنوي لوزارة التجارة للعام المالي 1443/ 1444هـ، دعا أحد الأعضاء في مداخلته حول التقرير إلى (ضرورة عدم التهاون بالسماح في استخدام المسميات الأجنبية للمحلات التجارية لما لها من أثر في تشويه الهوية الوطنية). وهذه الملاحظة لعلها تستدرك السماح باستخدام أسماء غير عربية للأسماء التجارية. وهذا موجود في مشروع نظام الأسماء التجارية الذي طرح على منصة الاستطلاع في الإنترنت، والذي يوسع (في نطاق الأسماء التجارية القابلة للقيد إذ سمح أن يكون الاسم مكونًا من حروف أو أرقام، أو أن يكون بلغة أخرى غير العربية).
وحتى بين النخب الثقافية يظل هذا الأمر متجددًا، فالأسبوع الماضي كان للأستاذين حمد القاضي وزياد الدريس (تغريدات) تجدد الخوف على اللغة العربية، ففي تغريدة للأستاذ زياد قال: (أيها المنظمون الكرام للمؤتمرات: إن فاتورة الاستخفاف باللغة العربية أغلى بكثير من فاتورة الترجمة الفورية). رد عليه الأستاذ حمد القاضي: (مع الأسف أخي الغيور د. زياد: الحديث بغير اللغة العربية بكثير من المؤتمرات والندوات ببلادنا أضحى بغير العربية رغم أنها لغة قرآننا ورمز هويتنا، ورغم القرارات السامية بالإلزام الحديث بها وآخرها قرار مجلس الوزراء في 2018م).
وأرفق الأستاذ حمد مع هذه التغريدة نص فقرة لقرار المجلس وهي: (د - تعتمد اللغة العربية لغة رسمية في المؤتمر أو الندوة، وعلى المشاركين المتحدثين باللغة العربية التقيد باستخدامها، ويجوز استخدام لغات أخرى في المؤتمرات والندوات الفنية والتخصصية التي تستلزم ذلك).
وهناك مبادرات أهلية لحث الناس على الحديث بالعربية مثل (إذاعة تحدث العربية). هذا الاهتمام من مختلف الأطراف له مبرراته، فالعلاقة الوثيقة بين اللغة والهوية نراها حاضرة في أسباب عدد من النزاعات العالمية، فالهوية وصِلَتها باللغة تشكل قضية محورية في الصراعات، فهذه تتجاذبها مسالة الهويات واللغات. ولهذا تحظى باهتمام النخب السياسية والفكرية، فاللغة تمثل المرشد الأهم لتحديد الهوية.
أيضًا ثمة مخاوف من التساهل في مسألة اللغة، فربما يؤدي هذا إلى الانفصام في اللغة والهوية بين النخبة الثقافية والفكرية وبين عامة الناس. وربما يقود إلى هيمنة لغة أجنبية تتمكن من بسط سيطرتها على عقول وأفكار العامة ومعها النخب. هذا سوف يؤدي إلى الاغتراب الثقافي إذا تولدت القناعة لدى عامة الناس أن لغتهم الأصلية لا ترقى إلى مستوى اللغة الأجنبية المهيمنة. هذا قد يجرهم إلى العزوف عن استخدامها كمؤشر للرقي والتحضر.
الذي نعرفه أن حقبة الاستعمار ولت دون رجعة، ولكن الباقي هو الأخطر، أي الاستعمار الثقافي والحضاري. هذا الشكل من الاستعمار أداته الحيوية هي الهيمنة على الهويات.. ومفتاح ذلك هو اللغة. وتاريخ الاستعمار ينقل لنا الآن كيف حاربت الدول المستعمرة اللغات الوطنية حتى تتمكن من الثقافة ومن الهوية. وتذويب الهوية كان الهدف الأول الأبرز الذي سعت له القوى الغربية المستعمرة لأجل ترويض الشعوب لغويًّا، ومن ثم التبعية في العلوم والفكر والثقافة والأدب وبقية مظاهر الحياة.
اللغة العربية تواجه حربًا شرسة من شيوع العامية وتمددها وانتشارها القوي في التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام، وستكون أمام تهديد وجودي حقيقي إذا (النخب) شعرت بالانهزام الحضاري، وتخلت عنها في مناسبتها الوطنية.