محمد سليمان العنقري
منذ تفكك الاتحاد السوفييتي قبل ثلاثة عقود لم يستقر العالم فالأزمات تتوالى وتداعيات هذا التحول التاريخي في النظام العالمي لا تتوقف ويضاف لها أزمات مالية وصحية واقتصادية عمقت من حالة عدم الاستقرار العالمي بل إن حلول بعضها يرسخ لأزمات مستقبلاً, فمن عام 2008 الذي شهد أسوأ كارثة بالقطاع المالي الأمريكي والتي انتقلت للعالم حتى أزمة كورونا والإقفال الكبير الذي صاحبها ارتفع حجم الدين العالمي بشكل كبير, ففي آخر ثلاثة أعوام زاد بما يقارب 70 تريليون دولار ليتخطى حاجز 300 تريليون أي أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج الإجمالي العالمي بخلاف التضخم المرتفع وتعطل سلاسل الإمداد والمخاوف من حدوث أزمة غذائية بالدول الفقيرة بسبب الحرب الروسية الأوكرانية.
لكن عدم اليقين الحالي بالاقتصاد العالمي يؤثر به العديد من العوامل والتي ظهرت نتيجة تراكمات, فالتضخم ليس فقط وليد انقطاع سلاسل الإمداد بعد جائحة كورونا أو حرب روسيا وأوكرانيا بل إن ضخ تريليونات الدولارت منذ أزمة 2008 المالية بقي أثر ذلك حتى يومنا الحالي, فالقوة الشرائية للدولار ولأغلب عملات العالم انخفضت نتيجة النقد الهائل الذي ضخ بالأسواق وأوجد تضخماً بأسعار السلع والأصول, فالسياسات النقدية للاقتصادات الكبرى سبب رئيسي بالارتفاع الكبير بالأسعار خلال أكثر من عقد من الزمان يضاف لذلك دخول العالم بواقع فرضته موازين القوى الجديدة وهو النظام العالمي الجديد الذي يقوم على تعدد الأقطاب, فالصراعات بين تلك القوى أصبحت ضاغطة على الاقتصاد العالمي فأميركا تحاول تحجيم الصين وروسيا وبقدر تحالفها التاريخي مع أوروبا إلا أنها تتخذ سياسات تضر بمصالح أوروبا والتي أدركت ذلك وتحاول التخلص من تبعيتها لواشنطن في العديد من التوجهات, أما الصين فهي تبني تحالفات عميقة تجارياً وأصبحت أكثر قبولاً من الغرب في مختلف الدول عموماً, ومع سياسات واشنطن في السنوات الماضية التي أضعفت الدولار لفترات طويلة ثم قامت برفع الفائدة خلال الشهور القليلة الماضية بعشر مرات أدى ذلك لرفع تكاليف التمويل على الكثير من الدول والتي بدا أغلبها يتوجه لعقد اتفاقيات للتبادل التجاري مع الصين تحديداً بالعملات المحلية كما أعلن بين البرازيل وكذلك الأرجنتين مع الصين وقد سبقهم بذلك روسيا التي تتعامل مع الهند والصين بالعملات المحلية, بل إن محموعة بريكس تنوي طرح فكرة تأسيس عملة خاصة بالمجموعة يضاف لذلك التحالفات التي تتشكل بالعالم بتنافس كبير بين تلك الأقطاب, كما أن إطالة أمد الحرب الروسية الأوكرانية والذي لا يستنزف موسكو فقط بل أوروبا أصبح من العوامل التي فرصت نفسها بأثر كبير على مستقبل قارة أوروبا التي ارتفع بها التضخم لمستويات غير مسبوقة منذ عقود طويلة وسيترك أثراً بالغاً على إضعاف تنافسية شركاتها عالمياً, بل حتى داخل السوق الأوروبي مع نظيراتها من أميركا والصين على وجه التحديد مما يعني أن مستقبل اقتصاد دول الاتحاد الأوروبي غامض وقابل للتراجع أكثر مستقبلاً, وبما أن الصين تبني خريطة لتحالفاتها وشراكاتها الاقتصادية بمختلف قارات العالم وقد نجحت بذلك فإن أميركا تحاول أن تعرقل حركتها بمشاريع مضادة لكنها متأخرة إضافة إلى اهتزاز ثقة شركائا بنهجها وحتى بقدرتها على تجاوز انقساماتها السياسية الداخلية والوضع الاقتصادي الغامض لديها بعد أن ارتكب الفيدرالي أخطاءً بالجملة بقراءته الخاطئة للتضخم على أنها عابرة ثم بتسارع رفع الفائدة وسحب التيسير الكمي عندما أدرك أن التضخم عميق ويحتاج لسياسة نقدية متشددة مما أدى لظهور أزمة بالمصارف الإقليمية المتوسطة الحجم لديه والتي أفلس بعضها فاهتزاز الثقة بالفيدرالي سيبقى عاملاً سلبياً على الأسواق أما روسيا فهي الطامحة لحماية أمنها القومي مهما كلف الأمر مما دعاها لخوض حرب لا أحد يستطيع توقع نهايتها ونتائجها لكن أثرها واضح بارتفاع أسعار سلع غذائية أساسية عالمياً.
العالم يمر بأهم منعطفاته التاريخية للقرن الحالي وعدم اليقين باقتصاده هو نتاج تشكل النظام العالمي الجديد والقطبية التي تفرض نفسها, فالتحولات عديدة حيث تتجه الاستثمارات للشرق وكذلك العلاقات التجارية وبدا العالم يتخلى عن الدولار تدريجياً, وانتقلت جل الصناعات للصين ودول آسيا عموماً بينما ما زال الغرب يمتلك مفاتيح قوة عديدة كالتكنولوجيا والسيطرة على النظام المالي العالمي والذي تحاول دول بريكس التخلص منه بأنظمة بديلة فكل ما يحدث بالعالم حالياً ومستقبلاً بكل تأكيد سيجعل الاقتصاد العالمي في حالة تقلبات مستمرة حتى تثبت موازين القوى ويأخذ كل قطب حجمه الطبيعي.