صدرت الموافقة الكريمة على نظام البيئة في المملكة العربية السعودية بموجب المرسوم الملكي رقم م/ 165 وتاريخ 19/ 11/ 1441هـ، وقد هدف النظام بشكل عام إلى تحقيق حماية البيئة وتنميتها واستدامتها، والالتزام بالمبادئ البيئية، والمحافظة على الموارد الطبيعية وتنميتها وترشيد استخدامها، وتنظيم قطاع البيئة والأنشطة والخدمات المتعلقة به، ورفع مستوى الوعي بقضايا البيئة، وترسيخ الشعور بالمسؤولية الفردية والجماعية للمحافظة عليها وتحسينها، وتشجيع الجهود الوطنية التطوعية في هذا المجال.
وقد صدر ما يقرب من (عشرين) لائحة تنفيذية لهذا النظام تم إعدادها من قبل نخبة من المتخصصين في وكالة الوزارة للبيئة بقيادة وإشراف سعادة الدكتور أسامة بن إبراهيم فقيها وكيل الوزارة للبيئة وبمشاركة المختصين في المراكز البيئية المتخصصة التابعة لقطاع البيئة وهي: المركز الوطني للأرصاد، والمركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر، والمركز الوطني للرقابة على الالتزام البيئي، والمركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية... كلٌّ في مجال اختصاصه حيث تميزت هذه اللوائح والأنظمة بتنوعها وشمولها ودقتها ووضوحها متناسقة مع رؤية المملكة الرامية إلى تعزيز مقومات جودة الحياة واستدامة التنمية.
ومن هذه اللوائح التنفيذية على سبيل المثال: اللائحة التنفيذية لتنمية الغطاء النباتي، واللائحة التنفيذية للمناطق المحمية، واللائحة التنفيذية لمخالفات الاحتطاب، واللائحة التنفيذية لجودة الهواء، واللائحة التنفيذية لمقدمي الخدمات البيئية، وغيرها من اللوائح التنفيذية الأخرى الخاصة بالبيئة...
وفي قراءة اجتماعية متأنية لنظام البيئة في المملكة ولوائحه التنفيذية نجد أن الجوانب الاجتماعية للبيئة والمتعلقة بالمحافظة على الإنسان والمجتمع قد نالت اهتماماً كبيراً، وذلك إدراكاً من المسؤولين لما للبيئة ومشكلاتها من أثر واضح ومباشر على جودة الحياة واستدامة التنمية، وهي اليوم أضحت تمثل تحدياً عالمياً إذ فرض هذا الأثر نفسه فرضاً بعدما أصبح الإنسان يعاني جراء المشكلات البيئية الناجمة عن الاختلال في توازن النظم البيئية وسوء استخدام الأراضي والمياه والسلوكيات التي أخّلت بالتنوع الأحيائي ومواطنه، الأمر الذي استدعى تجنيد كافة الجهود على مختلف المستويات من أجل البحث في أسباب المشكلات البيئية والعمل على الحد منها وتفاديها، وهذا الجانب تم التركيز عليه بشكل جلي في نظام البيئة في المملكة ولوائحه التنفيذية.
وقد جاء نظام البيئة بصورة شمولية وافية ومواكبة لأحدث المستجدات العالمية والعلمية في ذات الوقت، حيث اشتمل النظام ولوائحه التنفيذية على كافة الأبعاد البيئية من خلال رؤية منظومية شاملة لكافة الأبعاد من خلال المفهوم الشامل للأمن البيئي وعلاقته بالأمن الإنساني، فقد أدت هذه العلاقة التكاملية إلى ضرورة إعادة توسيع وتعميق مفهوم الأمن ليشمل كافة الجوانب قضية الأمن البيئي، حيث تعد اليوم من أهم الاهتمامات الدولية بالنظر إلى حجم المخاطر البيئية الناجمة عن الكوارث الطبيعية والبشرية وعلاقته بالتنمية المستدامة، فالبيئة عبارة عن منظومة متكاملة تتكون من ثلاث منظومات فرعية بينها تفاعلات وتأثيرات متبادلة وأي خلل في أي منظومة فرعية ينعكس على المنظومة كلها وعلى حياة الإنسان والنبات والحيوان فكلاهما يعزز وجود الآخر.
فالمنظومة البيئية تتكون من ثلاث منظومات داخلية تبدأ بالمنظومة الطبيعية وهى كونية النشأة خلقها الله سبحانه وتعالى وتشمل الغلاف الجوي والغلاف المائي واليابسة أو الأرض، ثم هناك المنظومة الصناعية أو المشيدة وهى نتاج عمل الإنسان مثل المصنع والمسكن والسيارة وغيرها من الأعمال أو الصناعات البشرية، وأخيراً هناك المنظومة الاجتماعية والبشرية وهى تنقسم إلى جزأين الجزء الأول يرجع للماضي البعيد ويشمل العادات والتقاليد والأعراف والقيم الإنسانية ومختلف مكونات المنظومة الثقافية والجزء الثاني يتكون من المنظومة الاجتماعية ويشمل النظم الاجتماعية المختلفة التي ساهم الإنسان في نشأتها وتأسيسها مثل النظام التعليمي والنظام التشريعي والاقتصادي والإعلامي وغيره.
فلم تعد المشكلات البيئية بتلك الصورة السطحية أو البسيطة التي يتصورها بعض المتعاطفين مع المشكلة، ودون أن يدركوا أن تعقد البناءات الاجتماعية وسرعة التغير الاجتماعي قد صحبها تعقد وتداخل كبير فيما يتعلق بالأسباب التي تؤدي إلى العديد من المشكلات البيئية، كما صحبها تداخل معقد بين العوامل المرتبطة بالبيئة، تلك العوامل التي تؤثر وتتأثر ببعضها، فلم يعد من الممكن اليوم النظر إلى المشكلات البيئية على أنها مشكلات ناتجة فقط عن البيئة نفسها وتغيرها، بل أصبح من الضروري النظر إليها باعتبارها مسألة هامة في بقاء المجتمعات واستدامة التنمية. ويتضح من خلال القراءة المتمعنة لنظام البيئة في المملكة ولوائحه التنفيذية الاهتمام الواضح بكافة هذه الجوانب وبالأبعاد الثلاثة للمنظومة البيئية وذلك من خلال العدد الكبير للوائح الذي شمل كافة جوانب المنظومة الكونية من مسطحات مائية وتربة وهواء علاوة على الجوانب السلوكية المرتبطة بتصرفات الإنسان نحو البيئة. حيث نجد أن النظام واللوائح التنفيذية بدأت بتعريف مكونات البيئة والنظام البيئي ثم تناولت بالتفصيل وسائل وأساليب الحفاظ والحماية اللازمة للبيئة من خلال المفهوم الشامل الذي أكد على أهمية الأبعاد الاجتماعية وجعلها في مقدمة وأولوية وبؤرة التركيز في مضمون ومحتوى هذه اللوائح، وفي ضوء ما تقدم فإن هذه المقالة سوف تستعرض بعض الجوانب الاجتماعية التي تم التركيز عليها والاهتمام بها من قبل من قاموا مشكورين بإعداد هذه اللوائح البيئية الشاملة، ويأتي في مقدمتها:
- الاهتمام الواضح بزيادة الوعي البيئي ورفع مستوى الثقافة البيئية في المجتمع السعودي على كافة المستويات والعمل على نشرها في كافة المجالات البيئية، إدراكاً بأهمية هذا الأمر لدى جميع الأطراف حكومة ومجتمعاً، ذلك أن المشكلات البيئية لا تستطيع أي حكومة بمفردها حلها بدون المشاركة الشعبية والمجتمعية وهي نقطة البداية العلمية والعملية لحل كافة مشاكل البيئة بوجه عام.
- ضرورة تشجيع المشاركة الشعبية حيث نصت اللوائح التنفيذية للبيئة في أكثر من موضع على أهمية وضرورة المشاركة الشعبية والمجتمعية في مواجهة مشكلات البيئة ونشر الوعي البيئي وتغيير السلوكيات السلبية، بل وضرورة تعزيز دور المجتمع ومساهمته في التصدي لهذه المشكلات من خلال المساهمة في حماية البيئة وصون مواردها، والتركيز على أهمية تحقيق المشاركة الاجتماعية والشعبية في كافة مجالات حماية البيئة على كافة المستويات وبين جميع فئات وشرائح المجتمع.
- التأكيد على تعزيز الشراكة الجادة والتفاعل مع القطاع الخاص والجمعيات التطوعية والخيرية، وذلك لضمان مشاركة جميع القطاعات المجتمعية في كافة قضايا البيئة، مع ضرورة وتطوير وتوجيه المبادرات التطوعية نحو حماية البيئة السعودية وصون مواردها باعتبارها قضية هامة من قضايا الأمن البيئي.
- ضرورة إبراز وتفعيل أساليب الضبط الاجتماعي في شقيه الرسمي وغير الرسمي التي وردت ضمن بنود اللوائح التنفيذية الصادرة من وزارة البيئة والمياه والزراعة؛ وذلك من خلال نشر القيم البيئية الإيجابية عبر وسائل الإعلام المختلفة، علاوة على تنفيذ القوانين التي تعاقب المخالفين لأنظمة حماية البيئة حيث نصت اللوائح على أهمية نشر الوعي والثقافة البيئية الإيجابية إلى جانب التحذير من الوقوع في المخالفات البيئية، وحددت اللوائح بوضوح التفاصيل المتعلقة بالغرامات لكل مخالفة ترتبط بأي ضرر بيئي، سواء في مجال تلوث الهواء أو التربة أو المحميات أو الضوضاء وغيرها... وهذا تطبيق للمبدأ الأممي والمتبنى من قبل الأمم المتحدة وهو مبدأ (الملوث يدفع).
وأخيراً ركزت عدد من اللوائح التنفيذية للبيئة بوضوح على أهمية دراسات تقييم الأثر البيئي والاجتماعي ودراسات التقويم البيئي الاستراتيجي للمشروعات حتى تكون وسيلة وضمانة لتحقيق جودة الحياة والبيئة معاً لكافة المواطنين في جميع أنحاء المملكة. وهي تعد بمثابة دعوة للجامعات ومراكز البحث العلمي على ضرورة المساهمة الجادة في تمويل وتوجيه البحوث العلمية نحو قضايا الأمن البيئي والتنمية المستدامة وجعلها ضمن أولوياتها البحثية.
وعليه يمكن القول بأن مضمون محتوى اللوائح التنفيذية جميعها أكدت على البعد الاجتماعي في الأمن البيئي وعلاقته بالأمن الإنساني الشامل، كما تشير هذه اللوائح والأنظمة في مجملها إلى دور الدولة واهتمامها بحماية البيئة وصون مواردها نحو اقتصاد حيوي ومجتمع مزدهر وهي بلا شك تعد قفزة نوعية على المستوى العربي والإقليمي من حيث الكم الهائل للوائح والوثائق التي صدرت بخصوص حماية النظام البيئي، حيث جاءت معطياتها مواكبة مع رؤية مملكتنا الطموحة 2030 بقيادة عرّابها ومهندسها سمو سيدي الأمير محمد بن سلمان - حفظه الله - والتي تسعى إلى تحقيق استدامة بيئية متقدمة في السلامة البيئية.. من أجل إنشاء مجتمع حيوي ينعم أفراده بنمط حياة صحي، إذ يعد حفاظنا على بيئتنا ومقدراتنا الطبيعية.. واجباً دينياً وأخلاقياً وإنسانياً.. ومن مسؤولياتنا تجاه الأجيال القادمة، ومن المقومات الأساسية لجودة حياتنا.
بارك الله الجهود وسدد الخطى وجعل هذا النظام البيئي ولوائحه التنفيذية في موازين حسنات ولاة أمرنا أيدهم الله ومن قام عليها.
** **
د. صالح بن محمد الصغيّر - أستاذ علم الاجتماع البيئي