إبراهيم بن سعد الحقيل
لم تتغن العرب في أدبها بكل أجناسه تغَنيِّهم بالحب والعشق، بل جعلوا الحب رحلة طويلة، يتقلب القلب وينتقل من مرحلة إلى مرحلة، يمر بها المحبُّ رجلاً كان أوامرأة، فأول هذه المراحل الهوى، ثم الشَّغَف، وتستمر مراحله المتصلة حتى تصل إلى منتهاها في المرحلة السابعة وهي العشق. لكن هذه المراحل السبع للحب لم تشفع للحب بكل مراحله أن تَرَى العربُ نهاية الحبِّ بالزواج، بل إنها كانت تقول: «الحبُّ إذا نُكِحَ فسَدَ». أي: خرجَ من الحبِّ ومراحله السبع، وأصبح شيئاً لا علاقة له بالحب ومجاهله السبع. والعرب لا تقصد بذلك ما يُسمَّى حبًّا وهو شهوة؛ غُلِّفت بالغزل الفاحش، الذي يتغنى بالمرأة جسداً، فإن العرب في غزلهم القديم كان مَدَارُه الروح والقلب والمشاعر، وإن ألم بالجسد فإنما هو إلمام عابر، ليس بيت القصد.
إن مقولة « إذا نُكح الحبُّ فسَدَ» نجدها في أخبار العشاق الذين سارت بأشعارهم الرواة والركبان، وسَوَّدت الصحفَ، فمن ذلك قول بثينة لجميل، وقال لها مرةً: هل لكِ يا بثينة أن نُحقِّقَ قولَ الناس فينا؟ فقالت له: مه، دع حُبَّنَا مكانه، إنّ الحبَّ إذا نُكِحَ فَسَد.
وهذا قاضي الكوفة الفقيه الشاعر عبدالله بن شُبْرمُة الضّبِّي يقول: كنتُ أقعد إلى فلانة وكانت جميلة بَرْزَة، فخلا البيتُ يوماً، فقلتُ لها: هل لكِ فيما أحلَّ الله عز وجل، وأمَرَ به؟ فقالت يُعجبكَ؟ قلتُ: نعم. قالت: فلا تُرِدْهُ، فإنّ الحبَّ إذا نُكِحَ فَسَدَ.
وفسر الأعرابيُّ الحدَّ بين الحُبِّ والزواج وقد سُئل: ما حَدُّ الحبِّ عندَكُم؟ فقال: أعْيُنٌ تَتَلاحَظُ، وألسنٌ تَتَلافظُ، وعِدَاتٌ تُتَقَضّى، وإشَارَاتٌ تَدلُّ على السُّخْطِ والرِّضا. قِيلَ له: فمالمُباضَعَة؟ قال: ذلك طَلبُ الولد، الحبُّ إذا نُكِح فسَدَ.
وأنشدوا للمأمون:
ما الحُبُّ إلا قُبَلٌ
وغَمزُ كَفٍّ أو عَضُدْ
أو كُتُبٌ فيها رُقيّ
أنفَذُ من نَفثِ العُقَدْ
منْ لم يُكُنْ ذا حُبُّهُ
فإنما يبغي الولد
ما الحُبُّ إلاَّ هَكَذا
إنْ نُكِحَ الحُبُّ فَسَدْ
وقيل لرجل وقد زُفَّت عَشِيقتُه على ابن عمٍّ لها: أيسركَ أن تظفر بها الليلة؟ قال: نعم، والذي أمتعني بحبِّها، وأشقاني بطلبها. قيل: فما كنتَ صانعاً بها قال: كنتُ أُطِيع الحبَّ في لثَمْها، وأعصي الشيطان في إثمها، ولا أفسد عشقَ عشرين سنة بما يبقى ذميم عاره، ويُنشرقبيح أخباره؛ إني إذاً للئيم لم يلدني كريم.
كل هذه النصوص التي تتحدث عن التلازم القاتل بين الحب والنكاح توحي بأن هناك خيطاً دقيقاً يفصل بين الحب والنَّفْرة والملل، بل والانفصال، إذا تجاوزه المحبُّونَ فَشِلُوا، وضاع الحبُّ في غياهبه، إنه الزواج ومن ثَم النكاح. فما الذي جعل النكاح يقضي على الحب كما يقضي الماء على النار المتوقدة؟ إن الإجابة العلمية لن نجدها عند أهل الأدب، إنما نجدها في الدراسات النفسية التي يُعنى بها المختصون بالنفس البشرية، وما يطرأ عليها من تغييرات في العواطف والأحاسيس، وكيف تنقلب تلك العواطف الحارة المتوهجة إلى بُرودة وجفاء، بل وانفصال عاطفي، ثم جسدي، ثم طلاق. ومِصداق هذا قصص كثيرها نشاهدها بأعيننا، و نسمع بها، ينتهي زواج المحبين بالفشل، فيما يصمد الزواج المعروف أمام مصاعب الحياة، وقد يولد حبًّا أيضاً.
وفي تراثنا أيضاً قصص من هذا القبيل، ومنها حب عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق؛ رأى ليلى بنت الجُوْدِيّ الغسَّانِية قبل إسلامه بالشام، فهَوِيها وتعَلَّقَ بها، فقال فيها الأشعار، حُفِظَ منها قوله:
تذكرتُ ليلى والسماوةُ دُونَها
وما لابنَةِ الجُودِيِّ ليلى ومَا لِيا
وأنَّى تَعَاطَى قلبُهُ حَارِثِيَّةً
تحلُّ ببُصْرَى أو تَحِلُّ الجَوَابَيا
وكيفَ تُلاقِيْها بَلَى ولعلَّها
إذا الناسُ حجُّوا قابلاً أن تُلاقيا
وقال أيضاً:
يابنةَ الجُودِيِّ قلبي كئيبُ
مُسْتهامٌ عندها ما يُنِيبُ
ولقد قالوا فقلتُ دَعُوها
إنَّ مَن تَنْهَون عنه حَبِيبُ
إنّما أبْلَى عظامي وجسمي
حبُّها والحبُّ شيء عجيبُ
فلما فتح المسلمون الشام تزوجها، فشُغِف بها أيَّما شغف، حتى هجر ما سواها من نسائه، فاشتكت نساؤه من هجره وتعلقه بليلى إلى أم المؤمنين عائشة، فكانت تُكلّمه فيها، وتعذله على هيامه بها، فيقول لعائشة: يا أُخيّة دعيني، فوالله لكأني أرشُفُ من ثناياها حَبَّ الرُّمان. لكن هذا الحُبَّ الملتهب لم تلبث جُذوتُهُ أن ذوت شيئاً فشيئاً، حتى مَلَّها، وهانت عليه، وضاعَ الحبُّ في حَمْأة الملل، فكانت عائشة تكلِّمُه في إضراره بها، بقدر ما كانت تعذله في الغرام بها، فلم يجد بدًّا من أن يُنهي حبَّه بيده، فردها إلى أهلها بالشام، غير آسف، متناسياً شعره. وانتهت قصة حبِّه الذي خلّده بشعره، الذي غنى به المغنون بعد ذلك.
إن هذه الثنائية تكاد أ ن تفسر لنا غَلبَهَ شعر الغزل في الشعر العربي، فإنه على تقادم الزمن كان الغرض الأول الذي لن تجد شاعراً إلّا وأنشأ شعراً فيه، سواء كان عربياً فصيحاً أو ملحوناً. إن هذا التعلق بشعر الغزل هو بكاء أكثر منه غزلاً، يبكي الحُبَّ المستحلَ بقاؤه، الذي لم يجد العربي طِبًّا ناجعاً لعلاجه، فإنه يراه على منزلتين إن توج بالزواج تحوَّل مع الوقت إلى طلب الولد، كما قال الأعرابي، ولا يلبث أن يذوي ويصبح كالثوب الذي كانت ألوانه زاهية براقة، فلما لُبِسَ مرّة بعد مرة، وغشَاهُ الماء غسلاً ودَعْكاً؛ أخذت ألوانه الزاهية تبهت وتذهب، بل قد يدركه التمزق فيصبح في طي النسيان خَلَقاً بالياً، وعلى الضد من ذلك فإن الحب إذا لم يتوج بالزواج فإنه يُهْرِمُ الجسمَ، ويُبْلي الرّوح، ولا يلبث مع زواج أحد الطرفين أن يؤدي به إلى جنون مطبق أو موت محقق.
تلك نظرة لكثرة شعر الغزل الكاثرة في الشعر العربي، بناها أسلافنا في مقدمات مطولاتهم، أو تناولوها دون أن يكون للحب نصيب من قلوبهم، فما كان ممن بعدهم من الشعراء إلا أن ركبوا هذا الطريق دون أن يعوا الأساس الذي بُني عليه هذا الغزل.