بدرية البليطيح
أحببت ذلك الصبي الذي يتحرك بنشاط حول والده فيناوله ذلك الصندوق وذلك الكيس ليملأه بالفواكه والخضروات ويقدمه للزبائن بكل حب ومازالت كلماته ترن بأذني:
لا عليك اختر ماتريد من المحل وسأوصلها لك بنفسي فيحملها فوق كاهله النحيل بنشاط والابتسامة تزين محياه الذي امتزج بين طفولة تهم بالرحيل وشباب يشرق بكل عنفوانه وقوته، حييت به الحرص والإخلاص بل وحب العمل الذي يمارسه مع استراقه للنظر لكتاب كان يخفيه بين حين وآخر بين الصناديق المرصوصة، لاحظت ذلك من كثرة ترددي على المحل القريب من منزلي، فهو طالب بالمرحلة المتوسطة كبقية الطلاب عليه التزامات وواجبات وبشهادة الجيران كان طالباً مجتهداً خلوقاً وكنت أثني عليه وامتدحه مشجعاً له على المزيد من الحرص.
ليس عيباً أن يقضي وقت فراغه مع والده المكافح ليساعده وينوب عنه أحياناً ويكتسب المهارة في التعامل مع الناس وصقل الشخصية فهو بالفعل يجيد الحوار وإقناع المشتري دون تردد إضافة لجودة محتويات المحل من الخضار والفواكه الطازجة.
ذهبت للمحل بعد فترة من الانقطاع ولم أشاهد الصبي لم أستغرب ذلك ولكني عندما افتقدته فعلاً بعد عدة مرات ترددت بها على المتجر حاولت السؤال عنه فلم يصلني إجابة شافية مع الوجوم الذي اكتسى وجه والده المثقل بالهم وهو يشيح بوجهه عند السؤال متشاغلاً بأمر آخر.
لم أكترث للأمر وقلت لعل بالأمر خيراً وليس سوءاً كما تحدثني به نفسي، فلم أستطع تجاهل وتخطي سؤالٍ يلح بداخلي أين اختفى الصبي؟
وذات يوم سمعت صراخاً وصياحاً بالحي أمام أحد المنازل أول الشارع عند مروري عائداً لمنزلي وتجمهر تجاه الصوت فإذا بصاحب (محل الخضار) أمام منزله يمسك بين يديه جسداً شبه (إنسان) كقطعة قماش تتثنى وتنزلق فتسقط ويتناولها مجدداً ليركلها ويقذفها على الحائط فترتد إليها وربما تحاول الفرار منه، جسداً هزيلاً يحاول الفرار بصرخات تمزق القلب، ولم تفلح المحاولات لتهدئة الوضع فابتعدت قليلاً أرقب مايحدث عن بعد بينما الفضول والألم يشدني لمعرفة الأمر.
لم يكن سوى ذلك الصبي لكنه بلا روح بلا ملامح وجهه قد تغير تماماً حتى لونه المتورد قد تبدل للون داكن مخيف وشعره اللامع الناعم قد تطاير وكأنه لكائن آخر شكل مختلف تماماً ترى ما الذي أصابه وبدل حاله عقدت الدهشة لساني وكل من شاهد ذلك ألجمه الموقف وسط ثورة والده المسكين الذي تحول لإعصار متمرد لا يرى ولا يسمع من حوله يريد أن يسيطر عليه ويعيده للمنزل بأية طريقة بينما الصبي يستجمع كل قواه ليهرب بكل ما أوتي من قوة ويختفي بلحظات بين الجموع والكل خائف من مجرد الاحتكاك به بينما الأب يسقط منهاراً يبكي كالطفل بعد أن خارت قواه.
اجتمعت بداخلي كل مشاعر الآباء والأمهات المفجوعين بأبنائهم وبناتهم ماذا حدث؟ حتى الدمعة تحجرت بمدمعي والدهشة كبلتني وأخرستني.
وصلني بعد ذلك أن والده كان يحتجزه منذ عدة أيام بعد اكتشافه أمر تعاطيه للمخدرات وتهجمه بلا وعي على إخوته وإيذائه لهم بحثاً عن المال بأي طريقة كانت، ففعل ذلك ليمنعه من الاستمرار بهذا الطريق المخيف بطريقته الخاصة خوفاً عليه وخوفاً من الفضيحة أمام الناس والجيران حوله، لكن حالته قد ساءت وامتنع عن الطعام وتدهور صحياً ونفسياً واستغل فرصة الهرب ليحدث هذا الموقف المأساوي أمام الجميع، وبعد أيام من الاختفاء يصل خبر اصطدامه بسيارة مسرعة ثم غيبوبة تامة لايعلم مداها إلا الله.. أما المحل فقد تم إغلاقه وعلق عليه لافتة (المحل للتقبيل).
ليست قصة من نسيج الخيال بل حقيقية سمعتها من صاحبها فنقلتها بتصرف.. هناك من ينخر بالسفينة لتغرق فلنكن يداً واحدة تساعد بانتشالها قبل الغرق..
وبالنهاية هل تستحق المخدرات كل تلك الحملات ..حفظ الله بلادنا بظل قيادتنا الحكيمة..