نظم كرسي غازي القصيبي للدراسات التنموية والثقافية في جامعة اليمامة يوم الثلاثاء 9 مايو 2023 محاضرة لسعادة الأستاذ الدكتور ناصر عبدالرازق الموافي أستاذ النثر العربي القديم في جامعة القاهرة، وأدار اللقاء سعادة الأستاذ الدكتور صالح بن معيض الغامدي أستاذ السيرة الذاتية والنثر العربي في جامعة الملك سعود. وقد حضر المحاضرة عدد من المهتمين بالدراسات النثرية والشعرية من الأكاديميين. وفيما يلي نص المحاضرة:
في البحث عن النوع/ النص المركزي في الحضارة العربية الإسلامية: من الشعر والنثر إلى القرآن الكريم.. دراسة في النقد الثقافي
تهدف هذه الدراسة إلى مناقشة بعض الأفكار التي شاعت في الأوساط النقدية العربية، وبيان وجه الحق فيها، مثل أن الشعر هو الذي شكل النسق الثقافي العربي، وأن النثر كان تابعاً له، ومن ثم يكون الخطاب الأدبي هو الخطاب المركزي. وهو ما يتعارض مع الواقع؛ حيث يذهب الباحث إلى أن الخطاب الديني -ممثلا بوجه خاص في القرآن الكريم- هو الخطاب المركزي في الثقافة العربية الإسلامية. وكما توسل من ذهبوا إلى مركزية الشعر بالنقد الثقافي، فإن هذه الدراسة تستخدم النقد الثقافي المنفتح على خارج النص لإثبات دعواها.
في الغرب ظهرت نظريات نقدية كثيرة في القرن العشرين، بعضها اختفى، وبعضها كان قادراً على الصمود– مع تغييرات طفيفة، وبعضها كانت لديها القدرة على الكمون ثم النشاط، وبعضها انحلّ في نظريات أخرى. يشبه الأمر– إلى حد كبير– حديثنا عن الأنواع الأدبية في دورة حياتها. يكفي للتدليل على ما سقنا أن نتحدث عن الحداثة وما بعد الحداثة، والبنيوية وما بعد البنيوية، وما بعد الاستعمار... إلخ. وكلما ظهرت نظرية جديدة سارع النقاد العرب إلى نقلها والدعوة لها دون مراعاة درجات الاختلاف بين البيئة المنقول عنها والبيئة المنقول إليها، حتى إن صاحب «المرايا المقعرة» كاد أن يصرخ وهو يبين أن النقل «عن الحداثة الغربية يفتح الطريق أمام التبعية الثقافية ثم يكرسها، ثم إننا نرتكب إثما لا يُغتفر حينما ننقل المصطلح النقدي الغربي، وهو مصطلح فلسفي بالدرجة الأولى، بكل عوالقه المعرفية، إلى ثقافة مختلفة هي الثقافة العربية- دون إدراك للاختلاف»(1).
ظهر النقد الثقافي في الغرب مع بداية العقد السابع من القرن العشرين، وشهد تطورات ملحوظة ومتلاحقة حتى ضعف وأوشك أن يحتضر. وبينما كان يحتضر هناك، إذا به يجد أسباب الحياة في العالم العربي، ويعود الفضل في منحه هذه الفرصة إلى مجموعة من المثقفين أبرزهم الناقد المعروف عبد الله الغذامي– الذي تحمس له نظراً وتطبيقاً، حتى غدا كتابه» النقد الثقافي.. قراءة في الأنساق الثقافية العربية» من أكثر الكتب إثارة للجدل في الأوساط الثقافية مطلع الألفية الثالثة. ويبدو أن طبيعة الغذامي الشخصية جعلت منه ظاهرة، وكفلت لكتابه هذا القدر الكبير من الذيوع والتأثير؛ فقد ألقى بكتابه- وما احتواه من اجتهادات- حجرا في بحيرة راكدة ممتلئة بالمخلفات النقدية المتنوعة.
ويبدو أن الجزء التطبيقي من الكتاب– وهو الأهم– بما احتواه من آراء صادمة، أثار حفيظة فرق ثلاث:
فريق يرى أن الكاتب حداثي، وأنه يروج لمفهوم الحداثة الذي عرضه غلاة الحداثيين العرب. وفريق يرى أن حداثة الغذامي ما هي إلا حداثة سلفية متخفية، ولا يتورع عن السخرية منه. وكلا الفريقين– مدفوعاً بحسن النية أو بالغرض أو المرض- سلق المؤلف بألسنة حداد، لكن ذلك لم يمنع ظهور فريق ثالث– هو الأغلب– تعامل مع طرح الغذامي بموضوعية. إلا أن هذه الفرق جميعاً تعاملت مع اجتهاد الغذامي من حيث الظاهر المعلن، ولم تلتفت إلى أحكام متسرعة وردت صراحة أو ضمناً، ومنها حكمان ستدور حولهما هذه الدراسة:
الأول: أن النثر– ضمن خطابات أخرى– كان تابعاً للشعر، وأن مبدعيه وأنواعه انتصروا للقيم السلبية نفسها التي حاول الشعر أن يرسخها في منظومة قيم الثقافة العربية.
الثاني: اعتبار الشعر النص المركزي في الثقافة العربية، وأن «الدعوى الجوهرية هي أن الشخصية الشعرية نسق ثقافي مترسخ ومتعزز فينا، ونحن نعيد ترسيخه وتعزيزه عبر تمثله في الخطاب وفي السلوك، وهو ما يصبغ ويميز نسقنا المهيمن، ويؤثر في كل مجالاتنا العاطفية أولا ثم العقلية خضوعا لذلك واستسلاما له.. تلك دعوانا»(2). وهي دعوى تنطوي على تجاوز واضح للحقائق والبديهيات؛ لأن النص المركزي في الثقافة العربية الإسلامية هو القرآن الكريم.
وعلى هذا، فإن هذه الدراسة ستحاول أن تتوقف عند المباحث التالية:
1 – ظهور النقد الثقافي.
2 – وجهات نظر.
3 – تبعية النثر.
4 – النثر والشعر: وجوه الاتفاق والاختلاف.
5 - من الشعر إلى القرآن الكريم.
1 – ظهور النقد الثقافي:
في ظل المراجعة والتحديث المستمرين في الفكر الغربي، ظهرت مجموعة من التوجهات» المابعدية» مثل: ما بعد الحداثة، وما بعد البنيوية، وما بعد الاستعمار. وبوحي من هذه التوجهات ظهرت نظريات أخرى كالتاريخية الجديدة والنقد الثقافي. ورغم أن نظرية النقد الثقافي أحدثت حراكا كبيرا، فإنها سرعان ما توارت في موطنها، إلا أنها وجدت من يتحمس لها في العالم العربي تنظيرا وتطبيقا، بل يبشر بأنها فتح جديد يُحل الثقافي محل الجمالي، ويعلن من ثمّ موت النقد الأدبي– في مرحلة لاحقة.
إن عبد الله الغذامي- صاحب الجهد الأبرز في النقد الثقافي في العالم العربي- يبدأ كتابه» النقد الثقافي.. قراءة في الأنساق الثقافية العربية» بداية صادمة للغاية ومستفزة، ويبدو أنها كانت بداية متعمدة لخلخلة المستقر وإحداث أكبر قدر ممكن من جذب الانتباه.. يتساءل: «هل الحداثة العربية حداثة رجعية؟ وهل جنى الشعر العربي على الشخصية العربية؟ وهل هناك علاقة بين اختراع (الفحل الشعري) وصناعة الطاغية؟ هل في ديوان العرب أشياء أخرى غير الجماليات التي وقفنا عليها– وحق لنا– لمدة قرون؟ هل هناك أنساق ثقافية تسربت من الشعر وبالشعر لتؤسس لسلوك غير إنساني وغير ديمقراطي، وكانت فكرة الفحل وفكرة (النسق الشعري) وراء ترسيخها، ومن ثم كانت الثقافة– بما أن أهم ما فيها الشعر– وراء شعرنة الذات وشعرنة القيم؟ لقد آن الأوان لأن نبحث في العيوب النسقية للشخصية العربية المتشعرنة، والتي يحملها ديوان العرب وتتجلى في سلوكنا الاجتماعي والثقافي بعامة»(3).
وفي فصلين يتعرض الغذامي لنشأة النقد الثقافي وتطوره من خلال تناول أهم المصطلحات المتصلة به، ثم يحاول توجيه هذه المصطلحات توجيها جديدا يجعلها أكثر قدرة على استيعاب الواقع الثقافي العربي. في الفصول التالية يتوقف عند ظاهرة المتنبي، ويتساءل عما إذا كان المتنبي مبدعا عظيما أم شحاذا عظيما.. أم هو الاثنان معا؟ ويخلص إلى أن الشعر العربي– وليس شعر المتنبي فحسب– « ينطوي على عيوب نسقية خطيرة، نزعم أنها كانت السبب وراء عيوب الشخصية العربية ذاتها؛ فشخصية الشحاذ والكذاب والمنافق والطماع، من جهة، وشخصية الفرد المتوحد فحل الفحول ذي الأنا المتضخمة النافية للآخر، من جهة ثانية، هي من السمات المترسخة في الخطاب الشعرى، ومنه تسربت إلى الخطابات الأخرى، ومن ثم صارت نموذجا سلوكيا ثقافيا يُعاد إنتاجه بما أنه نسق منغرس في الوجدان الثقافي، مما ربى صورة الطاغية الأوحد (فحل الفحول)»(4).
وكي يبرهن الغذامي على صحة هذا الطرح، راح يستشهد بنماذج منتقاة من شعر المتنبي وأبى تمام ونزار قباني وأدونيس وغيرهم ممن يُعدون رموزا للفحولة الشعرية ورجعية الحداثة- بقياس عصورهم، وانسحب هذا الاجتهاد على النثر العربي وأعلامه من أمثال: ابن المقفع، والجاحظ، وأبى حيان التوحيدي، وبديع الزمان الهمذاني. وفي سبيل إثبات دعواه الرئيسية لا مانع من إخضاع كل الظواهر لها كما فعل في الفصلين الخامس والسادس وهو يتحدث عن اختراع الصمت والنسق المخاتل.
إن الغذامي– وهو يحاول الدفاع عن طرحه اضطر إلى تقديم اجتهادات كثيرة تحتاج إلى مناقشات مستفيضة، كما حاول– قدر استطاعته– التدليل على صحة هذا الطرح؛ فأخذ يتصيد الشواهد، وفي أثناء ذلك كان كثيرا ما يصادر على المطلوب، أو يلوي عنق النصوص، أو يفرط في التأويل- وهي ملامح كثيرا ما تلتصق بالدراسات الرائدة.. وقد كانت دراسة الغذامي في حاجة جادة إلى حوار هادئ حتى تتلافى هذه العيوب.
2 - وجهات نظر:
سبق أن أشرنا إلى أن اجتهاد الغذامي قابلته ثلاث وجهات نظر:
الفريق الأول: ناقش الغذامي من وجهة نظر عقدية، إلا أنه انزلق إلى التفتيش في النوايا وتحميل النصوص ما لا تحتمل– مع التعميم أحيانا والتخصيص أخرى؛ فهناك من يرى أن «النقد الثقافي بأدواته المذكورة وقراءته الترصدية وبحثه عن العيوب والخلل النسقي، سيشمل- حالاً أو مآلاً- دراسة النسق الاعتقادي عند المسلمين؛ باعتباره النسق الأشمل والأظهر والأرسخ والأعمق! وبالنظر إلى النفسية الترصدية والنظرة التشاؤمية الغالبة على هذا التيار، وبالنظر إلى الخلفية الفكرية المؤطرة بالعلمانية فإنه سيجد- بحسب تصوراته- أنساقاً اعتقادية كامنة لها تأثيرات سلبية ومخرجات قبحية- بحسب أصولهم ونظريتهم- ومن ذلك على سبيل المثال: القضاء والقدر، والولاء والبراء، والغيبيات، كالجن والملائكة وخوارق العادات، وأشراط الساعة»(5). وهناك من يرى أن منشأ الخطأ عند الغذامي «إقصاؤه قيم الإسلام عن ثقافة الأمة» وتنصله عن» الرجوع للقرآن الكريم وكأنه لا علاقة له ألبتة بثقافة الأمة»، وأنه أورد نقولا» لبعض الحداثيين لا تحتمل إلا الكفر، وتحذلق في الاعتذار لهم، مع إغفاله لنقولات أكثر وضوحا وصراحة في كفريتها»(6). وهذا الذي أشرنا إليه قليل من كثير قد لا تختلف معه في الغاية، ولكنك تختلف معه في الوسيلة ودرجة حدة الخطاب.
الفريق الثاني: كان حادا في نقده للغذامي لكن من وجهة نظر تضاد الفريق السابق؛ فإذا كان الفريق الأول يتهم الغذامي بانتمائه لتيار الحداثة، فإن الفريق الثاني يتهمه بأنه ضد الحداثة، وأنه إن كان يدعي الحداثة فالأحرى أن تكون حداثته سلفية!!
يكاد «سعيد علوش» يخصص كتابه «نقد ثقافي.. أم حداثة سلفية؟» لنقد الغذامي وأطروحاته، ويخص كتابَ الغذامي «النقد الثقافي..» بالنصيب الأوفر. ولن يخطئ القارئ المحايد ما انزلق إليه علوش من تشخيص وسخرية لاذعة توشك أن تكون– إن لم تكن فعلا– سبا وشتما؛ مما يشي بأن وراء الأكمة ما وراءها. لا مانع عند علوش– أيضا– من الغمز واللمز؛ فها هي» الجزيرة العربية– ويا للمصادفة السعيدة– تتبنى في السعودية بقايا النقد الثقافي مع غذامي يدعو لهذا التوجه كدين جديد يحله محل النقد الأدبي الذي أعلى من سدة حداثيين متعجرفين تمركزوا في المدن الماكرة، ساخرين من هوامش السلفيين وشغبهم. ويظهر أن المسافة الفاصلة بين زمني الأصول الثقافية والامتدادات طوت معها الكثير من التفاصيل، ليظهر حماس فائق بالمخلوق الطريف الذي برز منقذا من ضلال تيه الحداثة العربية، ليجد رعاية خاصة– قريبا من الحرمين– على غرار رابطة الأدب الإسلامي التي جعلت من نظرية (الأدب الإسلامي) رأس حربتها لركوب الدعوة»(7).
وفي نقد مباشر- يخبط خبط عشواء– يتعرض مرة أخرى للغذامي الذي يجعلنا «منبهرين بخلاصاته التي لا تتطلب كل مجهوداته التحليلية الكبيرة؛ مما يجعلنا نشكك في مشروعية مشروعه، ونخشى أن يكون مجرد خدعة سلفية لاسترضاء مطاوعة المركزية العقائدية كملحق ثقافي بنظرية الأدب الإسلامي، بالسعي إلى افتعال أزمة نقدية لتصفية حسابات خاصة مع قرن من الحداثة العربية المتعثرة، باستهداف مشاهيرها والتمثيل بطغاتها وسط ممالك الديموقراطيات العربية، مدغدغا أحاسيس شيوخ الثقافة الإعلامية»(8). ويبلغ الشطط مداه حين يُقحِم من لا صلة لهم بالأمر؛ فقد «يلتجئ الغرب لاقتباس علم العلل في نقد الخطاب الثقافي على غرار الغذامي وهو يستعين فقط بعلم اصطلاح الحديث لا بفقه ابن باز؛ لأنه يعرف ضمنيا أنه يؤدي وظيفة ثقافية ليس بطاقة جهات الإفتاء الدلو فيها بدلوها».(9) أو أن يعرِّض بخامس الخلفاء الراشدين: «فهل سيقبل الغرب أن يعتبر عمر بن عبد العزيز كأول رائد للنقد الثقافي؟ لا مجال للضحك فهو اقتراح الغذامي السلفي»(10). أو يتساءل: «لو قُدِّر لكتاب (نقد الثقافة) أن يُترجم إلى لغة أوروبية– ولن يُترجم درءا للفضيحة– ماذا سيكون موقف برمنجهام منه؟ وهل سيقبل هذا الغرب بتفحيل شكسبير، وبفحولة أو استفحال لبودلير، طغاة أو رجعية لبودريار وديريدا وسارتر؟»(11).
إن علوش يسخر من الغذامي في مواطن يستحق عليها الغذامي الثناء؛ فهو حين يتحدث عن علم العلل يرفع عاليا من مكانته، وهو حين يستخدم مصطلحات عربية فهو يؤصل بما يخدم غايته– حتى ولو اختلفنا معه في فهمه الخاص لعلم العلل ولمصطلحات كالفحولة. إن كتاب علوش لا يخلو من إشارات مهمة ونقدات صائبة، ولكن أسلوبه غير العلمي ذهب بتلك الإيجابيات وترك انطباعا عاما سلبيا.
الفريق الثالث: كان موضوعيا إلى حد كبير، ولعل أفضل ما يمثل هذا التوجه الكتاب الذي تضمن نحو عشرين دراسة عن الغذامي، وجاء بعنوان: «الغذامي الناقد.. قراءات في مشروع الغذامي النقدي». وقد خُصصت معظم هذه الدراسات لكتابه «النقد الثقافي» واستخراج علله، وكأن دعوة الغذامي لإنشاء علم علل شبيه بعلم علل الحديث الشريف قد انقلبت عليه؛ إذ انبرى كثيرون– معظمهم من أصدقائه– لكشف علل (قُبحيات بحسب تعبيره) نظريته.
انتبه «حاتم الصكر» لخاصية أساسية في كتاب الغذامي هي: التأويل المفرط(12). بينما التفت «حسن البنا عز الدين» إلى أن دراسات الغذامي السابقة مهدت لـ»النقد الثقافي» وأكدت أسبقيته، وأن الفصل الثاني من كتابه يعد مقدمة نظرية تتمتع بأصالة فكرية وتماسك منهجي يكشفان عن امتلاك صاحبهما لأدواته امتلاكا كاملا»(13). ويأخذ «البنا» علـى الغذامي إعلانه موت النقد الأدبي. ولا يخلو الأمر من مداعبة... «عمر بن عبد العزيز أول رواد النقد الثقافي.. إن المرء ليخشى حقا أن يكون الغذامي هو آخر رواده، فهذه سوف تكون خسارة عظيمة»(14).
إن ملاحظات «البنا» اتسمت بالدقة حتى إنه ليشير إلى كثرة إحالة الغذامي لكتبه، ويتوقف عند اللوحة التي زينت غلاف الكتاب ليبحث عن صاحبها ودلالتها ومدى ملاءمتها لموضوع كتاب الغذامي- في ميل واضح لدراسة «عتبات النص».
يلاحظ «خالد سليمان» ملاحظة غريبة بعض الشيء؛ فهو يرى أن الكتاب قد عمل على» دق مسمار أخير في نعش احتكار أقطار عربية معينة– مصر وبلاد الشام على وجه الخصوص– للطلائعية الثقافية والنقدية العربية، لتصبح هذه الطلائعية موزعة على أقطار عربية أخرى كانت إلى زمن قريب تقوم بدور المتلقي المستهلك وليس المتلقي المنتج الفاعل»(15). غير أن «عبد العزيز السبيل» لا ينشغل بمثل هذه الملاحظة الخارجية، إنما ينشغل بتساؤل مهم آخر: «هل ما يحدث في المجتمع يأتي نتيجة للتأثر بالقول الشعري أم نتيجة للواقع السياسي الذى عاشه المجتمع عبر مراحل تاريخه– ابتداء من العصر الجاهلي، ثم قفزا إلى العصر الأموي وما تلاه من عصور حتى لحظة الحاضر؟»(16). وهو تساؤل مشروع وجاد؛ فالعلاقة بين الشعر/ الثقافة والسياسة ملتبسة. ويتساءل «السبيل» مرة أخرى: «من صنع الآخر؟ هل الشاعر صنع الحاكم أم العكس؟ في مقابل الحاكم الفاعل يأتي دور الشاعر القائل، وبين الفعل والقول يظل البحث قائما عن الصانع والمصنوع، وكلاهما حدث عبر التاريخ.. أن يكون الشعراء مسؤولين عما يحدث للأمة وتبرئة الساسة فهذا سؤال يستحق الطرح، خصوصا حين ندرك أن الناس على دين ملوكهم ورؤسائهم وقياداتهم السياسية والحزبية»(17). ولا يتوقف عند الفعل مقابل القول، بل يتطرق إلى وضع الخطاب الشعرى مقابل الخطاب الديني..» ثمة خطابان متقابلان أحدهما أساسي جدا يدخل في أعماق كل نفس دون النظر إلى مستواها الثقافي والاجتماعي وهو الخطاب الديني، أما الآخر فهو خطاب جمالي كمالي نخبوي! كيف حصل هذا الانحسار الكبير في تأثير الخطاب الديني بحيث لم يعد مؤثرا– حسب نتيجة الغذامي غير المصرح بها، وأصبح التأثير للخطاب الجمالي الأدبي؟»(18).
يثني «سعيد يقطين» على محاولة الغذامي تحديث الجهاز الاصطلاحي، ولكنه يلاحظ أنه لم يستخدم إلا عددا محدودا من مصطلحاته.. لقد «وظف الجملة النوعية وربطها بالنسق، لكنه أهمل مكونات الجهاز الاصطلاحي الذى دعا إلى تحديثه، فظلت تلك المكونات أسيرة الجانب النظري، ولم تنخرط في معمعة التطبيق لتبرهن على وظيفتها الجديدة»(19). وينعى على الغذامي قلبه للحقائق - مناقشا الفكرة الجوهرية لكتابه: «هل يصاغ العالم الواقعي– بما فيه العلاقات الاجتماعية والمزايا النفسية والتطلعات والرغبات في ضوء المنظومة الخطابية السائدة، أم أن تلك المنظومة هي التي تقوم بعملية تمثيل... رمزي لذلك العالم؟... القول بأن العالم النصي يصوغ العالم الواقعي قول يحتاج إلى بحث تفصيلي تجنب الغذامي الخوض فيه، مع أن كامل الأطروحة التي تقدم بها تقوم عليه»(20). يلاحظ «يقطين» كذلك – كما يمكن أن يلاحظ كثيرون– انتقائية الغذامي؛ فهو يقوم» بانتقاء جزئيات يضخمها ويجعل منها قانونا متحكما في النتائج التي يروم التوصل إليها... فهل يجوز اقتطاع نصوص من سياقاتها وإسقاط دلالات خارجية عليها؟ دلالات شكلها الكتاب منذ مقدمته، ومؤداها أن نسق الشعر صاغ نسق البشر»(21). ويتفق «يقطين» مع «السبيل» على أن الغذامي بذل جهدا كبيرا للبرهنة على مركزية الشاعر في الثقافة العربية، إلا أنه يشير إلى أن الواقع التاريخي لا يؤيد هذه الفرضية، بل إنه من المؤكد أن» النخبة الدينية والفكرية لم تعتد بأية قيمة تُذكر للشاعر. وبالإجمال: «إن المجتمعات التقليدية تنظر إلى المشتغل بمجالات التعبير المجازي– الرمزي لغويا(=شعر+سرد) كان أم صوتيا (=غناء+ عزف) أم جسديا(رقص+تمثيل) نظرة يشوبها الاحتقار»(22). ويسرد أمثلة على هامشية دور الشاعر بل نبذه من قبل المجتمعات الثقافية والاجتماعية والدينية. ولكنه يعود– في النهاية، ليمدح– عن حق– اجتهاد الغذامي..» إنه مشروع ثقافي فوق أن يُطرى ويُمدح بالصيغة التقويمية التقليدية. في الواقع هو يشجع ناقديه على الانخراط في ممارسة النقد الثقافي، فتسري فيهم أهدافه فورا»(23). وهي ملاحظة جديرة بالتوقف والاحترام؛ فالغذامي يكتب ليُفهِم ويُفهَم ويُناقش.. وربما تكون إحدى أكبر ميزات كتاباته أنه أعاد النقد إلى درجة من الوضوح تكاد تأتي على النقيض من كتابات ثلة من النقاد جعلوا الغموض المتعالي معلما أساسيا من معالم كتاباتهم. اجتهادات الغذامي لا يمكنك أن تمر بها مرورلكرام بل تجد نفسك منفعلا بها– تأييدا أو معارضة– ليتحول هذا الانفعال إلى اجتهاد مقابل.
ويلح» معجب الزهراني» على قدرات الغذامي التأويلية، حتى إنه ليرى أن قناعته بتأثير الشعر في الثقافة العربية هي التي دفعته لتبني نظرية النقد الثقافي، بل يذهب أبعد من ذلك حين يلاحظ– ومعه الحق– أن الفصلين الأول والثاني» لا يبدوان وظيفيين، حتى لكأنهما ملحقان بالكتاب بعد إنجاز القراءة التأويلية التي تنطوي عليها تلك الأطروحة المركزية»(24).
إن الخلاصة التي يمكن أن يخرج بها الباحث بعد هذا العرض لدراسات تناولت اجتهاد الغذامي، أن ثمة ملاحظات منهجية وأخرى موضوعية، غير أنها جميعا لا تقدح في جدة المحاولة وأصالتها– خاصة في الشق التطبيقي– وقابليتها لبناء حوار منتج. غير أننا نلاحظ أن الغذامي ما زال متمسكا بمعظم ما طرحه من دعاوى، بل إنه ما زال يدافع وينافح عنها في مساجلات مع عدد من النقاد المعتبرين، وهو ما يعكس مدى اقتناعه وحماسه وإخلاصه– سواء اتفقنا معه أم اختلفنا. وهذا لا يمنع أنه قد يتراجع عن بعض مقولاته جزئيا أو دون مباشرة.
3 - تبعية النثر:
حمل الغذامي الشعر العربي– قديمه وحديثه – كل خطايا النسق الثقافي العربي، ورغم أن دعواه وجدت من ينفيها في عمومها أو في بعض أجزائها، فإنها حملت في طياتها أحكاما صريحة أو ضمنية جريئة، مما يستدعي التوقف لعرضها ومناقشتها. وما لفت انتباهَنا أكثر موقفُه من النثر العربي.. باختصار: يرى الغذامي أن النثر شريك الشعر في كل جرائمه– إن بالموافقة الصريحة أو الضمنية، أو حتى السكوت. بل إن بعض أنواعه– كالمقامة– كانت من أبرز وأخطر ما قدمته الثقافة العربية، بل إنها كانت القمة النسقية– على حد تعبيره. ورغم ما يبدو من تناقض بين رؤيته لمكانة الشعر وأثره ومكانة المقامة وأثرها– باعتبارها فنا نثريا في المقام الأول، فإنه كان واضحا في مواطن عدة؛ حيث جعل الشعر في مكانة متميزة متفردة، وكان أولى به كي يخرج من هذا المأزق أن يتحدث عن الأدب في عمومه ومدى تأثيره في النسق الثقافي العربي، طالما أنه لا يرى كبير فرق بين الشعر والنثر- وهو ما سنبينه وشيكا.
** **
- أ.د. ناصر عبد الرازق الموافي