د. حمزة بن فهم السلمي
امتداداً لدور المملكة العربية السعودية الريادي والقيادي على المستوى الإقليمي والدولي ولثقلها السياسي والاقتصادي والإستراتيجي، وانطلاقا من حرص قيادتها الرشيدة على ديمومة التعاون القائم وتعزيز التواصل مع قيادات الدول العربيّة، والعمل على تنسيق المواقف حيال الملفات والقضايا ذات الاهتمام المشترك، استضافت بلادنا القمة العربيّة العاديّة الـ 32 بجدة بتاريخ 19 مايو 2023، وذلك بعد سنوات قليلة من آخر قمّة عاديّة استضافتها في عام 2018 وأخرى طارئة في 2019، وبعد 47 عاما من أوّل قمّة على أراضيها عام 1976.
تحمل هذه القمّة جملة من الأبعاد والدلالات الرمزية والعمليّة على عدّة مستويات، بداية من تاريخ انعقادها في ظروف استثنائية تمر بها المنطقة العربيّة والعالم من انقسامات وأزمات سياسية وأمنية واقتصادية حادّة وصراعات إقليميّة ودوليّة حيث تتزاحم الملفات الشائكة في الوطن العربي بدءاً بما يجرى في السودان من اشتباكات متصاعدة ومروراً بما تشهده ليبيا من عدم استقرار وما يسود العلاقات الجزائرية - المغربية من توتّر ونزاعات حول الصحراء الكبرى، إضافة إلى الملف اليمني المعقد. هذا الوضع يحتّم على الدول العربيّة، إيجاد آليات تستطيع من خلالها مواجهة التحديّات المشتركة، وتعزّز الأمن والاستقرار الإقليمي، وتُحقّق الرفاه لدولها وشعوبها، ممّا يقتضي تطوير آليات التنسيق السياسي تحت مظلة جامعة الدول العربيّة، وتعزيز التعاون الاقتصادي ودفع عجلة التنمية المستدامة في مختلف المجالات التي تمس المواطن العربي بشكل مباشر، فضلا عن الشعار الذي أطلق على القمّة وهو «قمّة التجديد والتغيير» والمراد به أنّ قمّة جدة تُعقد في ظلّ تغيّرات إيجابية حدثت بالتأكيد، لا سيّما نحو تصفية خلافات وتهيئة الأجواء للعمل البنّاء، وأنّها ستكون على خلاف سابقاتها من حيث التجديد والتغيير في المواقف والموازين، وصولاً إلى طبيعة الملفات المطروحة والمتعلّقة بقضايا مستجدّة وأخرى قديمة ويجب إثارتها من جديد والتأكيد على تفعيل القرارات المتّخذة في شأنها.
ومن هذا المنطلق تعتبر قمّة جدة قمّة تاريخيّة، وقد تصل في درجة أهميّتها إلى مستوى قمّة الخرطوم التي انعقدت في 1967، ذلك أنّها تأتي في ظروف تاريخية مشابهة، حيث يُنتهك الأمن القومي العربي، وتشهد عديد الدول الحروب الأهليّة مثل السودان واليمن وليبيا وسوريا، فضلاً عن تفاقم الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة من جرائم وانتهاكات بشعة تُرتكب بحق الشعب الفلسطيني الصامد وسط صمت وتواطؤ المجتمع الدولي، إلى جانب الحرب الروسيّة الأوكرانيّة المستمرّة وتداعياتها الخطيرة، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، تُعقد القمة ولأوّل مرّة منذ سنوات طويلة في ظل تفاهمات إقليمية إيجابية بين البلدان العربية والقوى الإقليمية الرئيسيّة تمثّلت أساساً في عودة سوريا إلى الجامعة العربيّة ومشاركتها في اجتماعات القمّة العربية بعد أكثر من 12 عاماً من تعليق عضويّتها، وهو ما يمثل خطوة مهمة نحو استعادة أحد أهم الأعضاء المؤسسين لجامعة الدول العربيّة. وكذلك عودة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، وتجاوز الخلافات السياسية، وهو خطوة مهمّة لإنهاء الاحتدام بين الدولتين والدخول بمرحلة إيجابية في العلاقات الثنائية من شأنها تحقيق الاستقرار الإقليمي. وإضافة للتحديّات الكبيرة التي تواجهها منطقة الشرق الأوسط، أخذت قمة جدة أيضاً في الاعتبار قضايا دولية مثل الحرب في أوكرانيا، حيث شهدت مشاركة الرئيس الأوكراني.
في ظل هذه السياقات الداخلية والإقليمية والدولية، انعقدت قمّة جدّة برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء نيابة عن خادم الحرمين الشريفين -حفظهما الله- وحقّقت نجاحا تاريخيّا استثنائياً أشادت به العديد من الدول وذلك بما حظيت به من حضور عالي المستوى لقادة الدول العربيّة، وبما توصلت إليه من مخرجات هامّة تُمثّل موضوع هذه القراءة القانونيّة.
رغم انعقاد القمّة في ظلّ أجواء إقليميّة إيجابية غير مسبوقة على صعيد المنطقة العربية منذ سنوات طويلة، إلاّ أنّها تواجه تحديّات وتطلّعات لتحقيق نتائج مهمّة على مستويات عديدة. وتُلخص أهم مخرجات القمة الّتي تضمّنها «إعلان جدة» فيما يلي:
القضية الفلسطينية
تصدرت «القضية الفلسطينية» والتطورات في قطاع غزة والضفة الغربية جدول أعمال القمة على اعتبارها قضيةَ العرب الممتدة. وفي هذا الإطار أعادت مخرجات قمّة جدّة إحياء مبادرة «الأرض مقابل السلام» الّتي أطلقها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - رحمه الله-، للسلام في الشرق الأوسط، في القمة العربية العادية الرابعة عشرة في بيروت في 2002م ، وهذا ما رّسخه المحور الأوّل من إعلان جدّة الذي أعاد التذكير بـ «مركزية القضية الفلسطينية وإدانة الممارسات والانتهاكات التي تستهدف الفلسطينيين في أرواحهم وممتلكاتهم ووجودهم وأهمية تكثيف الجهود للتوصل إلى تسوية شاملة وعادلة للقضية الفلسطينية، وإيجاد أفق حقيقي لتحقيق السلام على أساس حل الدولتين وفقا للمرجعيات الدولية وعلى رأسها مبادرة السلام العربية والقرارات الدولية ذات الصلة ومبادئ القانون الدولي بما يضمن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة على الأراضي الفلسطينية، بحدود عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية». وإلى جانب التأكيد على أهميّة الالتفاف العربي حول «المبادرة العربية للسلام» كأحد أكثر السبل المساهمة في توحيد الصف العربي تجاه القضية الفلسطينية في ظل الوضع العربي الراهن، تمّ التشديد على ضرورة حماية القدس المحتلة من عمليات التهويد المستمرة.
وفي هذا الإطار يُطرح التساؤل حول: مدى نجاعة الجهود العربية المشتركة تجاه القضية الفلسطينية وتوحيد مواقف الدول العربية في ظل تطبيع بعض الدول العربية لعلاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل في تجاوز للشروط المسبقة التي فرضتها مبادرة السلام العربية من أجل إحلال السلام وهو ما مكّن إسرائيل من فرصة إضافية لتجاوز هذه المبادرة؟ لابد من تغليب صوت الحكمة والعقل في هذا الموضوع تجنّباً لأي صدام.
أزمة السودان
يُعد الملف السوداني أهم الملفات، لأنّه حاضر وآني ويهدّد جميع الدول العربية المجاورة للسودان بالخطر. وتجدر الإشارة إلى دور المملكة القيادي في التعامل مع أزمة السودان، حيث استجابت للطلبات المقدمة من الدول الشقيقة والصديقة لإجلاء رعاياها في جمهورية السودان ونفذت علميّات إجلاء بحري وجوي لمواطنيها ورعايا الدول الشقيقة والصديقة من السودان، واستضافت مباحثات بين طرفي الصراع في السودان لوقف إطلاق النار، كما قدمت بتوجيه من القيادة الرشيدة - حفظها الله- مساعدات متنوعة إغاثية وإنسانية وطبية بقيمة 100 مليون دولار أمريكي مع تنظيم حملة شعبية عبر منصة «ساهم». وأكّد إعلان جدّة على ضرورة دفع الجهود العربية للوصول إلى وقف دائم وفوري لإطلاق النار، وأنّ الأزمة شأن داخلي، لا يحتمل أي تدخل خارجي من شأنه تأجيج الأوضاع.
الملف السوري
وهو الملف الأبرز، حيث ومع عودة سوريا إلى الجامعة العربية، حظي ملف الأزمة الممتدة في البلاد على مدى أكثر من عقد، بحيّز من مشاريع القرارات في إطار التوجه الحالي نحو «تصفير الأزمات» في المنطقة، بالتوازي مع الاتفاق السعودي - الإيراني وما يرافقه من عمليات تهدئة في المنطقة.
- وبخصوص الأزمتين الليبية واليمنية شدّد إعلان جدّة على ضرورة البحث عن سبل إنهاء الحرب المستمرّة في المنطقتين.
- كما كانت أزمة لبنان من أهم الملفات المطروحة في القمّة، وأكّد الإعلان على أهميّة ملف الفراغ الرئاسي وإنهيار الأوضاع الاقتصادية والعمل السريع على الحد منه، وخاصة بعد التوافق السعودي - الإيراني، والسعودي - السوري.
الملف الاقتصادي
رغم العوامل الإيجابية التي تهيئ الأجواء لنتائج مغايرة في القمة، يظل الملف الاقتصادي في مقدمة الملفات التي تحتاج لمعالجة خاصة حيث تتطلّب التحديات الاقتصادية العمل على مواجهتها.
الأمن الغذائي
يعتبر الأمن الغذائي من أخطر التهديدات التي تواجه دول المنطقة العربية، حتى الغنية منها، خاصة في ضوء التجربة الأخيرة مع اضطراب سلاسل التوريد في وقت الأزمات، وكذلك التبعات الخطيرة للحرب في أوكرانيا على أسعار الغذاء، بل ومدى توفره. وفي هذا الإطار أقر إعلان جدة «مبادرة استدامة سلاسل إمداد السلع الغذائية الأساسية للدول العربية»، وهو ما يُمثل الحل الأمثل للمنطقة العربية للتعامل مع تحدي الأمن الغذائي في المستقبل.
الأمن المائي
يشكل الأمن المائي خطرًا في كامل المنطقة العربية وخاصة في مصر والسودان في ظلّ أزمة سد النهضة، وفي هذا الإطار أقر إعلان جدة «مبادرة البحث والتميز في صناعة تحلية المياه وحلولها» لتكون صناعة إستراتيجية للدول العربية.
الملف الأمني
يمثل الجانب الأمني، ومكافحة الإرهاب في المنطقة أولوية كبيرة، في ظل تداعيات الأزمة العالمية، ومواقف الدول العربية من الأزمة في أوكرانيا، والتي خلقت بعض الفتور مع واشنطن ودول الغرب، يمكن أن تتبعها انعكاسات أمنية على صعيد الملفات المشتعلة منذ العام 2011 . وفي هذا الصدد أكّد الإعلان على ضرورة العمل على تعزيز العمل العربي المشترك لحماية الأمن القومي العربي بمفهومه الشامل وبكل أبعاده السياسية والاقتصادية والغذائية والمائية والبيئية.
كما شدّد إعلان جدة على عديد المبادئ التي تؤمن بها المملكة العربيّة السعوديّة كقائدة للدول العربيّة ومنها خاصّة رفض التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدول العربية، والرفض التام لدعم تشكيل الجماعات والميليشيات المسلحة الخارجة عن نطاق مؤسسات الدولة واحترام قيم وثقافات الآخرين وسيادة واستقلال الدول وسلامة أراضيها. فهل ستنجح القمّة في تغيير واقع النظام الإقليمي العربي بما يحتويه من تناقضات وهي التي رفعت شعار «التجديد والتغيير»؟ يمكن القول أنّ القمّة نجحت في رسم خارطة طريق للتعامل مع كل القضايا على الساحتَيْن الإقليمية والدولية وتقديم رؤية واضحة للمشكلات والتحديات التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط. ومن الثابت أنّ المملكة العربيّة السعوديّة بقيادتها كانت وما زالت رائدة وقائدة ومبادرة ويهمها شأن العرب، لأنّها تستشعر مسؤوليتها ودورها باعتبارها مهد العروبة، ومهد الرسالة وصاحبة قدرات وإمكانيات سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية، خاصّة بتبني الرؤية الطموحة 2030 لولي العهد -حفظ الله- الّتي حققت كثيراً من الإنجازات. وها هي اليوم تصنع التاريخ في المنطقة العربية والعالم بإشراك الجميع في الرؤى والأهداف والمصالح، وبالتحاور والتوافقات والإتّفاقيات، وبالسعي لوضع رؤية شاملة للمنطقة لتكون «أوروبا الجديدة»، وذلك ببناء نظام إقليمي عربي قوي يضمن تحقيق التنمية والازدهار لجميع شعوب المنطقة ويحدّ من الصراعات والنزاعات القائمة، بما يسمح بالتركيز، بصورة أكبر، على مسيرة البناء والتطوير وتحقيق المنفعة المتبادلة والتنمية المستدامة التي تنشدها شعوب المنطقة.
وختاما نسأل الله عز وجل أن يُديم الصحة والعافية على خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين، وأن يُمدهما بالتوفيق والسداد لكل ما فيه خير البلاد والعباد، وأن يحفظ المملكة وشعبها.
** **
رئيس قسم القانون العام - وكيل كلية القانون للتطوير والتنمية المستدامة سابقاً