العقيد م. محمد بن فراج الشهري
القمة العربية (32) التي انعقدت في مدينة جدة في المملكة العربية السعودية أتت في وقت حاسم، ومهم للغاية للدول العربية لتضميد جراحها ولملمة الشأن العربي، والتي كانت بعد كورونا، والأزمة الاقتصادية العالمية أكثر صعوبة وعسراً، ومنذ سنوات والعديد من الاضطرابات تجتاح بعض الدول العربية: سوريا، واليمن، وليبيا، وبدرجة أقل العراق، ولبنان، وحالياً السودان وبالطبع فإن المشكلات الأساسية في الأصل سياسية وعندما تتفكك مؤسسات الدولة أي دولة بسبب الخلافات وتزداد الهجرة، والتهجير ويضاف إلى ذلك ما أحدثته (المليشيات) التي أفسدت الترابط العربي، وأصبحت من المشكلات المستعصية التي تعبث بأمن الدول العربية سياسياً، واقتصادياً، وفي كل بلد من هذه البلدان، قرارات دولية ومبعوثون يأتون ويذهبون، إلا أن حلول الأزمات عن طريق القرارات الدولية صارت نادرة وغير مجدية، بل إن أغلب القضايا أصبحت مستعصية وهذا الاستقصاء ليس آتياً من الفرقاء والمتنازعين بالدرجة الأولى، بل من الصراعات والتدخلات الخارجية ومن مليشيات الداخل ذات العلاقة بالخارج، وإن كانت المشكلة الإنسانية لم تساعد على التقدم نحو الحل السياسي في سوريا، فالأمر كذلك في اليمن، المهجرون صاروا بالملايين هرباً من النزاع، والجوع صار يعاني منه حوالي نصف السكان، وهناك مبعوث يذهب ومبعوث يعود دون نتائج تذكر سوى التسويف والإطالة، وعدم الركون إلى حلول تنهي هذه الأزمة التي لم تبق ولم تذر، وما يُقال عن اليمن، يُقال مثله عن لبنان، فحتى في اليمن والسودان ما انهارت المصارف كما انهارت في لبنان، ثم حدث تفجير مرفأ بيروت الذي تهدم معه ثلث المدينة، وتهجر أكثر من ثلاثمائة ألف نسمة، ويُضاف إلى ذلك مليون ونصف المليون مهجّر سوري بلبنان، وربع مليون لاجئ فلسطيني أقدم منهم ورغم كلام المؤسسات الدولية عن 55 % من اللبنانيين تحت خط الفقر، فإن الفرقاء السياسيين ما استطاعوا الاتفاق على حكومة تعالج الوضع الاقتصادي، والمصرفي، والإنساني، هذا فيما يخص لبنان أما في العراق، وليبيا فهناك نوع من التقدم البطيء، إلا أن المليشيات غير النظامية لا تزال قوية ومستفحلة في كلا البلدان وخاصة في ليبيا التي لم تعرف الاستقرار والثبات منذ سنوات، وفي العراق قد يكون التقدم الطفيف ناجماً عن السخط الشعبي على جميع المليشيات، والخوف من الانهيار الاقتصادي المتزايد، وللعلم والتأكيد فإن من أسباب انتكاسات أغلب الدول اعربية الكبرى هو وجود المليشيات التي وضعت نفسها محل الجيش والأمن العام، وأصبحت تشرع وتحكم وتسيطر بأعمال مضادة للحكومات الرسمية وهي مرتهنة دون شك لأجندة خارجية الهدف منها زعزعة أمن البلد واستقراره، وجعله دائماً تحت الضغط، ولم يفلح بلد عربي تتواجد هذه المليشيات على أرضه إطلاقاً والأمثلة عديدة وواضحة ولا تحتاج إلى تأكيد أو تفسير، فما حدث للبنان وسوريا، واليمن، والعراق، وليبيا وحتى السودان هو نتاج لتدخل هذه المليشيات ومحاولة أخذ مكان القوات النظامية والسيطرة على مقدرات البلد وزعزعة أمنه واستقراره، وهذا ما حدث ويحدث حتى الآن، وإذا لم تقم هذه البلدان بتعديل أوضاعها الداخلية، والبحث عن إخراج هذه المليشيات، وإطفاء تدخلاتها وهيمنتها وكبح جماح انتشارها وإلا فلن يقوم لهذه البلدان قائمة، والمؤتمر (32) الذي عقد في مدينة جدة بحضور زعماء الدول العربية هو الفرصة العظمى لهذه الدول وغيرها لتضميد الجراح ومعالجة الخلل الناجم عن السياسات المتبعة سابقاً، وقد عملت المملكة العربية السعودية كل ما في وسعها وطاقاتها للملمة الشمل العربي، وبذلت في سبيل ذلك أقصى الطاقات، والجهود وكان للدور الذي قام به سمو الأمير محمد بن سلمان على المستوى السياسي أبلغ الأثر في توحيد الصفوف، ومعالجة مكامن الخلل الذي حل بالأمة العربية ومحاولاته المستمرة بتوجيه من خادم الحرمين الملك سلمان التدخل فيما يصلح الشأن العربي والحد من التدخلات الخارجية التي تنهش في الجسم العربي، وقد تُوجت هذه الجهود بما تم من قرارات واتفاقات وتعهدات في ضوء مؤتمر جدة (32) الذي نأمل أن يكون فاتحة خير على الأمة العربية ويعيدها إلى مكانتها الطبيعية دون تشتت، وانقسام، وتشرذم، وحتى تعود قوة عربية واقتصادية، وسياسية يهاب منها كل من يريد إفساد التضامن العربي كما مرّ بهذه الدول في الأعوام الماضية ... وإن اختلفنا فلا بد أن نتفق ولنتذكر قول الشاعر العربي:
«تأبى الرِّماحُ إذا اجتمعنَّ تكسُّراً
وإذا افترقَنّ تكسّرتْ آحادا»
نسأل المولى أن يجمع شمل أمتنا على الخير والأمن والرخاء والسؤدد، وأن يجنبها شر التنافر والتباعد والشتات..