أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: التعريف ضروري لتوصيل تَصَوُّرِك إلى فَهْم الآخرين، وأنتَ لا تُعَرِّف الشيئَ إلا مِن خلال ما عرفته أو علمته منه.. أي أنك تريد توصيل ما عندك، ولاقُدْرةَ لك في توصيل ما غاب عنك ولا في توصيل ما لم يزل مُغَيَّباً عن البشر؛ فأنت تعاني حَصْرَ تَصَوُّرِك معرفةً وعلماً من ذلك الشيئ؛ وما لم تعرفه أو تعلمه من ذلك الشيئ فليس خارجاً عن (تعريفك الجامع)؛ لأن تعريفك لا يتعلَّق بالشيئ من حيث (هُوَ هُوَ).. أي هُوِيَّتَه؛ وإنما تعريفك قاصر على ما عرفته أو علمته منه، وغايةُ الأمر أنك في معاناة مع مَلَكَة الحافظة تَسْتَجْلِبُ منها كل ما علمته أو عرفته؛ وهذا أمر مُتْعِب، ولكنه يأتي بالتدريج والتَّذكُّر، ومع هذا فهو حتمية ضرورية مِن أجل التعليم، والتواصل مع العقلاء؛ فهو إن تَعَسَّر قليلاً فليس بمتعذِّر؛ وبهذا تعلم سُخْف أحكام مَن كَابَرُوا اليقينيَّات، وحكموا بأن الحدود مُتَعَسِّرة، ثم غالطوا بأن الحد لا يَحْصُلُ به عِلم!.. وهذا خارج عن غاية الحدِّ؛ فالحد ألفاظ توَصِّل المعلوم والمعروف إلى الآخر؛ ليعلم بالتَّذكُّر ماذا تريد، وليست الألفاظ آلةَ إدراكٍ تَعْرِفُ بها ما لم تكن تعرفه مِن قبل كحاسة السمع، أو تعلم بها ما لم تكن تعلمه مِن قبل كَقُوَى العقل.. فإن كان المُتَلَقِّي لم يُدرك بتجرِبته بعضَ أجزاءِ تَصَوُّرِك قَرَّبته له بالوصف والتشبيه، وليس قصورُ تجربةِ المُتلَقِّي عيباً ينال من تعريفك؛ وإنما هو داعٍ له ليبحث ويجرِّب، وداع له أن يقارن ما لم يعرفه بعدُ بالعلاقات والفوارق بينه وبين ما علمه هو وعرفه.. وأُعِيد الكرَّة بأن حتمية التعريف من أجلِ (جَمْعِ كلِّ ما في تصوُّرك جمعاً يمنع من كلِّ ما لا يدخل في تَصوُّرك)، وسياسةُ تسهيل العلمِ وتوصيله إلى الآخرين أن تكون كتابةُ ألفاظ التعريف آخر العمل، ثم تكون أوَّل ما يُكْتَب؛ لأن المُعَرِّفَ لا يستطيع حصر ما يريد إيصاله مع المنع إلا بعد مُقَدِّمات سأذكرها إن شاء الله.. ويجب أيضاً أن يكون التعريف أوَّلَ ما يُكْتَب؛ ليحصل للمتلقِّي تَصَوُّرٌ عام، وليتابِع جُزْئِيات المُعَرَّف؛ وبهذا يكون عوناً بعد الله في إتقان التعريف؛ فيستدرك ما لم يَجْمَعْه التعريف من التصوُّر، ويحترز عما دخل في التعريف وهو مُمْتَنع؛ لهذا ينبغي أن يَتْلُوَ التعريفَ كثيرٌ من الأمثلة الشارحة مع تحليلها؛ لمعرفة وجهِ الشاهد من المثال.. والمثالُ يكون واقعياً من الماهدة العامة، ويكون واقعياً علمياً مما أنتجته الخِبْرة العلمية الدقيقة، وقد يكون افتراضياً.. وقيمة الافتراضي أن يكون مُفْهِماً التصوُّرَ غيرَ مُصَحِّحٍ له؛ ولهذا إذا غاب عن المرسِل شاهِده استعمله مُؤَّقتاً، ويحرص على مثالٍ واقعي يُلْحِقُهُ بكتابه ويُلغي به المثال الافتراضي.. والمثال الواقعي العادي يكون في الأمور العاديَّة التي لا تحتاج إلى دقيق تَصَوُّرٍ، والمثال الواقعي العلمي ضروريٌّ لمُعضلات الفكر والعلم الدقيقة.. والمرسِلُ خلالَ تحليله التعريف يكون في جدلٍ عنيفٍ مع نفسه، ومع ما يتلقَّاه من الآخرين؛ من أجل الاحتراز للتعريف؛ فلا بُدَّ أن تكون لغةُ تحليله فكريةً علمية تقوم على ركائز لا محيد عنها، وأهمها: ملاحظةُ العلاقات والفوارق بين جامعِ التعريفِ ومانعه، وإقامة البرهان على المُعْتَدِّ به وغيرِ المُعتَدِّ به من الفوارق والعلاقات فيما يُحَدِّدُه من تَصَوُّر؛ وبذلك تتأصَّلُ المُعادلةُ بين وجود المُقتَضي وتَخلُّفِ المانع.. والتعريف الجامع المانع مُتَعَذِّرٌ إذا أُريد تعريف حقائق الشيئ من كلِّ وجه؛ فهذا ليس بوسع البشر عموماً؛ لأن لله في أفرادِ مخلوقاته غيباً لا يعلمه إلا هو، أو من أذن الله له من خلقه غير البشر، أو أختصَّ بعلمه بعض البشر كعلم سليمان عليه السلام بقول النمل، وسماعه إياه؛ والبرهان على ذلك قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}[سورة الإسراء/ 85 ]، وقوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } [سورة الروم/7]، وقوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [ سورة الإسراء/ 44 ].
قال أبو عبدالرحمن: ويلي التعريفَ في التأصيل التقعيدُ للمسائل التي تجمعها قاعدةٌ واحدة من خلال وجود المُقْتَضِي وتَخَلُّف المانع، ثم يلي ذلك العنايةُ بتبويب المسائل المُخْتلِفة مما يُظنُّ أنها داخلة في قاعدة واحدة؛ لوجودِ مانع، أو لكون ما يُظَنُّ أنه مُقْتضٍ غيرَ مُعْتَدٍّ به؛ وبهذا يظهر بُطْلان ما شاع مِن قولهم: (لكل قاعدة شواذ) !! وإلى لقاء عاجل إن شاء الله تعالى، والله المستعان وعليه الاتكال.
** **
كتبه لكم/ أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) -عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين-