حين ولدت مريم لم تكن تعرف أن هناك مكاناً آخر غير قريتها، ظنت أن الكون هو هذا فقط، لم تر أبعد من سلسلة الجبال التي تطوّق مكان عيشها، كانت تظن أن القرية هي كل ما تملك وكل ما يتوفر بداخلها هو أيضًا خارجها حين سمعت وأول ما سمعت كلمة مدينة، طرأ لها بأنها رُبما تكون أكلة من صنع جدتها أو رُبما ثمرة أو سيارة أو طيارة ثم أصبحت المدينة فيما بعد حلمها المستحيل حلمها البعيد، كانت تُربي الحلم كمعزتها الصغيرة ميمي، كانت تربت عليه تغذيه بخيالها، وتعلق عليه آمالها كانت تريد أن تكون في المدينة أن تتعلّم المدينة أن تسير في شوارع المدينة الشوارع الملساء الناعمة، تريد أن تقرأ وتكتب وتصبح طبيبة بيطرية، لتعالج كل حيوانات القرية لكي تكون فزاعة رعب في وجه الموت لكي يرحل عنهم الخوف من المرض، ولكن بعد خروجها بعدة سنوات للقاء حلمها، لاحتضانه، للعيش فيه لم تحتمل كل ما رأت، وضربة العالم كانت قاسية عليها، راحت عيناها تهربان من وإلى كل الاتجاهات وهي تلتصق بالجدار كالطفلة الضائعة، أين المدينة؟ وشوارع المدينة؟ وحضارة المدينة؟
لا إن هذا العالم سينتهي حتماً إلى الجحيم، هذا الكفر الذي تراه، تشمه، تُحسه في المكان ظل يُعذبها كل ما تراه غريباً عنها، مخيفاً لها تصرخ خارج رغبتها، خارج جلدها وتبكي وتنعت الفتيات بالكافرات الأجانب وتنعت الفتيان بأشباه الذكور.
ثم تتساءل بدهشة والخوف يكسو جلدها بطبقة محببة تشبه جلد الدجاج تسحب كم أمها المتخيلة، تعود الطفلة الصغيرة، تعود لتعرف الجواب تهمس في أذنها بصوت فضولي
ماذا يفعلن الأجانب في المدينة؟
ثم لماذا يرتدين عباءات قصيرة، مفتوحة، تلمع كما ذلك الحلق المُعلق في سُراتهن؟
لماذا تلك السراويل المتقطعة ورؤوسهن كأسنمة البخت؟
يصلها صوت الأم كصدى بارد، يصلها ليكشط الطريق، ليريها ما كانت تظن بأنها تعرفه، ولكنهم ليسوا أجانب، بل عرب مثلنا
ولغتهم لغتنا، وثيابهم كانت كثيابنا ولكنها الحياة، تجرد من يريد أن يتجرد من حشمته، وهذا لأن الجسد يشتهي أن يُرى يرغب في المزيد من الكلام، يرغب في أن يُلمس، يرغب في الحب، صمتت الطفلة وتساءلت من جديد، وهي تمص طرف قميصها دون أن تشعر، ولعابها يسيل ليكون بقعة دائرية تكبر كلما كثرت أسئلتها، ولكن ماذا يجنين من كل هذا؟
ألا يرى المرء بأن الجسد زائل!
وشهوة الجسد يغذيها الشيطان!
وأن الروح أبقى وأنقى؟
ألا يرى المرء بأن الحياة عبور لا أكثر!
وأن سنوات يقضيها الإنسان هُنا في مُتع تبور!
تحرمه من لذة الأبدية؟ لأيام حملت الخوف في معدتها مما منعها عن الطعام والقلق في رأسها يمنعها عن النوم في بلاد الكفر لم تعد تريد أن تعالج أحداً ستمضي لتعالج روحها مما رأت.
عادت مريم.. عادت وهي تحمل بين يديها خيالها المقتول، حلمها الذي كان، عادت تتسلق السور نحو قريتها البدائية، وسريرها الحديدي الأبيض عادت إلى ملاءتها الخضراء وهو لونها المفضل حتى تشعر وكأنها تنام في غابة أو حديقة لكن تلك الليلة، لم تكن لتنام أيضاً وهي تعلم بأن في الخارج ما هو أكثر حُرمة من أن يُقال وقد سُكت عنه ودُحض خلف السور الكبير هذا الضعف ظل يتآكل بداخلها كالفاكهة المتعفنة وهي تعرف في قرارة نفسها بأن أطفال القرية.
جميعهم يحملون تلك الفاكهة الغضة والتي ما إن تُصبها أزمة الحداثة حتى تتعفن لا تُسقى ولا تتشرّب العالم برفق هم هؤلاء إن خرجوا بغتة سيصابون بما أصاب مريم وإما أن يُهلكوا وتعجنهم حياة المدينة حتى يغرقوا بها أو يقفون جانباً كمريم لأن الوقت قد انتهى وأن المعركة في هذه المرحلة من التقدم.
لم تعد تنفع أحد، ويُصاب فيها المرء يُصاب في حواسه، يُصاب في روحه، ولا يعود أبداً ليعرف أين ومتى وكيف ولماذا؟
** **
- علا الحوفان
Twitter:@ola29x