كل غبيرة كانت تعرف قصة سالم مع غادة وغادة مع سالم، بل إن خبر قصتهما وصل منفوحة والعود وحتى خنشليلة والعنوز اللذين لم يتحولا إلى حيين شعبيين في تلك الفترة بعد. منهم من نسب البطولة والأهمية لغادة وهم في الغالب رجال، ومنهم من نسب البطولة والأهمية لسالم وهم غالباً نساء، وهناك فريق ثالث نسب البطولة إلى رويجح شقيق غادة الذي ما إن اكتشف علاقة أخته مع سالم حتى ضربه أمام بيته بعصى غليظة مما أدى إلى شرخ يده وشج رأسه وادماء وجهه دون أن يحاول سالم الدفاع عن نفسه. كان المعجبون برويجح يعدونه بطلاً ينتصر لعرضه ويعيد الأمور إلى نصابها في حارةٍ أغرتها عواطف صبيانية وعبثت بقيمها ودينها ودفعتهم للانسياق وراء ملذات حكائية يتندرون بها ويتسلون بالحديث عنها لأنها لا تمس شرفهم ولا تعرضهم للخطر لكونهم ليسوا أحد طرفيها.
رويجح لم يكتف بكرهه لسالم بعد اكتشافه لعلاقته مع أخته، بل كره الحارة وساكنيها فانتقل منها بعد شهرين من الحادثة ولم يخبر أحداً بالحي الذي انتقل إليه. لقد كان يشعر بالإذلال في كل يوم يختلي فيه بنفسه ويسترجع الأحداث التي كانت تمر به في الحارة دون أن يفهمها في حينها.
ففي كثيرٍ من الأيام كان يرى قعيّان أبو الذهب يركض وفي يده ورقة قادماً من أول الشارع حيث بيت رويجح، متجهاً بها إلى آخر الشارع حيث بيت سالم. والناس في الحارة؛ الجلوس على الدكك أو المجتمعون في تكتلات متفرقة أو المنفردون على عتبات الأبواب، كانوا يتركون ما بأيديهم ويتابعون الصغير صاحب الطاقية المطرزة بخيوط القصب والمثبتة على رأسه جيداً وهو يحزم طرف ثوبه على خاصرته وينطلق كسهمٍ نحو هدفه مراوغاً السيارات والمارة بمهارة عامداً إلى طرف الشارع والنوافذ تُصاحب ركضه فتُفتح تباعاً لتشاهده أعين النساء من خلف الستائر وهو يركض.
ومما يتذكره رويجح بشكلٍ جيد فيزيد غيضه، وقوفه ذات يوم مع عضيان اللهيبي أمام بيت الأخير واستغراقه معه في حديث مهم فيما قعيّان أبو الذهب يبدأ في تلك اللحظة انطلاقه من أول الشارع وبيده ورقة، فإذا بعضيان يقاطع حديث رويجح مستمهلاً إياه وينسحب نحو منزلهم ويُدخل رأسه عبر بابه مبقياً جسده في الخارج ويصرخ لمن بالداخل معلناً:
«قعيّان أبو الذهب يركض في الشارع»
«قعيّان أبو الذهب يركض في الشارع»
فُتحت ثلاث نوافذ في الطابق العلوي على إثر صيحة عضيان فلم تفت رويجح ولكنه لم يفهم شيئاً. بل إن عضيان تجرأ قبل أن يعود رويجح إلى موضوعه المهم، فأمسك بكتف الأخير وسحبه إلى منتصف الشارع وأوقفه أمامه ليستقبل وجهه ومن خلفه منزل سالم، ثم طلب من رويجح إكمال حديثه بلا اهتمام وظل طوال الوقت يستطيل برأسه أو يُميل جسده ليشاهد ما يحدث خلف محدثه، ولم يستعد اهتمامه بحديث رويجح حتى رأى قعيّان يسلم الرسالة لسالم على باب الأخير.
لن يستطيع أحد معرفة الطريقة التي أُفشي بها سر سالم وغادة وانتشر بين الأهالي، وكل ما يمكن الرجوع إليه هو الفترة التي بدأت فيها الألسن بطريقةٍ غير معروفة المصدر بتناقل الشكوك والأحاديث الظنية بتواتر حتى تحولت إلى يقينيات مع تكرر ركض قعيّان بين المنزلين. هناك من تطفل باستجواب أبو الذهب ولكنه رغم بلاهته وحداثة سنه استطاع الحفاظ على السر دون أن يُخبئ ضحكة صغيرة تعني شيئاً. أما ما جعل الأهالي يولون اهتمامهم للقصة ودفعهم لمتابعتها، فربما يكون ندرة الحب ولذة التخيل والحنين إلى الرسائل بين العشاق التي وأدتها المكالمات. كانوا يشعرون بوجود حبٍ حقيقي بين الطرفين لأن هذا الحب يتخذ من الرسائل وسيلةً للتواصل رغم انتشار الهواتف في البيوت تلك الفترة. كما أن أحداً من أهل الحارة لم يشاهد سالم يتسلل لبيت غادة أو يشاهد غادة تتسلل لبيت سالم فجنحت بهم خيالاتهم نحو علاقةٍ عذرية أيقظت فيهم الحنين للأساطير. علاقة محترمة وحب عذري يندر وجوده في زمن رومنسيات ماجنة لا تمت لقدسية الحب المجسدة في أذهان الناس. كما أن لطبيعة طرفي العلاقة سبباً في رسوخ هذه الفكرة في الأذهان، فسالم شاب منعزل لا يتحدث كثيراً ولا يخالط الأهالي إلا قليلاً ويمكث في منزلهم ولا يحب الخروج منه إلا للجلوس على عتبة باب بيتهم لوقتٍ لا يطول ولا يتكرر بصفةٍ متقاربة. وهو رغم تضلع وجهه وضخامة شفتيه إلا أنه لا يخلو من مسحة وسامةٍ رجولية سمراء. أما غادة فهي جميلة الجميلات والجميع يتذكرها منذ أن كانت صغيرة تلعب في الحارة بعينيها الزجاجيتين الدائريتين كأعين شخصيات الرسوم المتحركة وشعرها الحريري المتساكب عن كتفيها كشلالٍ من ليل.
كان الجميع يتحدثون همساً عن تلك العلاقة ويتسقطون أخبارها ثم يختلون بأنفسهم ليجمحوا مع خيالاتهم في أحداثها. تتسرب في أنفسهم مشاعر لذيذة تحاكي أحلامهم وتدفع آمالهم الرومنسية نحو ذروة أمانيهم المكبوتة والخائبة والضائعة والتليدة. يبحثون عن الفصول المفقودة ويتساءلون عن سر الرسائل ويقترحون مع أنفسهم الجمل والعبارات والقصائد التي قد تُكتب فيها. يسترجعون مئات القصص والحوادث والأحاديث التي تعجبهم عن الحب ويسقطونها على سالم وغادة ويتخيلون سعادتهما فيما يفعلانه ويسعدون هم أيضاً بهذه التخيلات. تُرهف آذانهم في منتصف الليل لأصوات الحارة ويكملون سيناريوهاتها بما يعجبهم، فما أن يُسمع صوت خطوات حتى يُقال: سالم ذاهب برسالته لغادة. ما أن تُغلق نافذة حتى يقال إنها ألقت له منها بوردة، ما أن تمر سيارة، أو تموء قطة، أو يُسمع صوت، أي صوت.. إلا وجعلوا لسالم وغادة يداً فيه.
أهالي الحارة وجدوا أمامهم مسلسل حبٍ واقعي على شاشة الشارع فتابعوه مفضلينه على الحب المفتعل في التليفزيون حتى وصلت حلقته الأخيرة يوم عودة رويجح من العمل ودخوله بيتهم ليجد قعيّان في الفناء يقف مع غادة وهي تمسك في يدها ورقة. تسمر رويجح في مكانه يومها بتعجب لدخول الصبي بيتهم وظل لبرهةٍ يفكر بينما فر الصبي من أمامه ورويجح لا يحرك ساكناً في خارجه ولكن ذاكرته تومض سريعاً في رأسه بطريقةٍ فلاشية عما كان يحدث حوله في الحارة دون أن يفهمه:
(قعيّان أبو الذهب يركض بورقة)
(قعيّان قادم من جهة بيتهم)
(قعيّان يستوقف الحارة برمتها)
(قعيّان تتابعه النساء من خلف النوافذ)
افتك رويجح الورقة من يد أخته وفضها فوجد فيها الإدانة الواضحة، نظر إليها بعينين جاحظتين ووجهٍ جلله العرق قبل أن يحيط معصمه الأيسر بشعرها ويصفعها بيده اليمنى مرةً بعد أخرى ويشتمها بأقذع الألفاظ ويصمها بالانحلال وهو يستجوبها. ثم بحث عن التوقيع في الرسالة فلم يجد سوى اسم سالم بلا عائلة فسألها وهو يعرف الإجابة:
«سالم أبو المناقيد؟.. قولي يا حقيرة! هل هو سالم أبو المناقيد؟»
وما إن حركت رأسها إيجاباً حتى رمى بها في الفناء وتوجه إلى سيارته وأخرج منها عصاً غليظة وسار بها في شارع الحارة متجهاً لبيت سالم وراح يضرب بها الباب ويصرخ بعلو صوته:
«انزل يا سالم»
«انزل لا بارك الله فيك يا أبو المناقيد»
«اخرج يا واطي إن كنت رجلاً»
كان قعيّان قد سبق خروج رويجح من منزلهم وهو يصرخ راكضاً بعلو صوته المضطرب:
«انفضحنا.. انفضحنا..
غادة بيذبحها رويجح.. غادة بيذبحها رويجح»
سمع الأهالي صراخ الصبي فنزل الكثير منهم إلى الشارع، والذين لم يسمعوه أو لم يعيروا صراخه أهميةً، لم يتمكنوا من إغفال صوت رويجح المتعالي في الحارة وعصاه ترج باب بيت سالم فخرجوا هم أيضاً مع تأخر سالم في الاستجابة لنداءات رويجح مما جعل الجمع يكبر ويتكاثر حول رويجح وهم يحاولون تهدئته:
«وش صاير يا رويجح؟»
«العن إبليس يا رويجح»
«حنا جيران وأهل حارة واحدة»
لم يفكر رويجح قبل وصوله إلى بيت سالم بتبعات ما يقوم به، تملكته سورة الغضب واقتادته للانتقام لشرفه مغمض العينين ولكن وجود الأهالي من حوله جعله يفكر لوهلة أنه سيسيئ إلى سمعة عائلته وسيتسبب بفضيحةٍ لأخته إذا عرفوا بعلاقتها مع سالم. ذاكرته كانت تُأزم موقفه وهي تلقي بضوء فلاشاتها عليهم فيستنتج خيانتهم له وشراكتهم في العلاقة الآثمة ولكنه لم يتيقن ممن يعرف منهم ومن لا يعرف. درجت في رأسه ألف فكرة ولكن شيئاً واحداً استبد بأفكاره ولن يتراجع عنه مهما حدث، وما إن فتح سالم باب منزلهم حتى شرع في تنفيذه وهو يصرخ في وجهه:
«تغازل أختي يا كلب»
اختار هذه الجملة دوناً عن غيرها وأعلنها على الملأ ليجعلها عائمةً خوفاً من تبعات ما قد يقوله فيكون سبباً في فضيحة أخته، ثم انهال بـ (العجرا) على رأس سالم الذي لم يزد على محاولة حماية وجهه بيده دون الهرب أو التراجع إلى منزلهم أو الاشتباك معه دفاعاً عن نفسه. ربما أراد سالم الاستسلام لرويجح ليُظهر ضعفه أمام الحب، أو أنه أراد تقديم القربات والتضحيات لحبه بصمت، وربما لم يكن يريد إيذاء شقيق حبيبته، ولكنه في كل الأحوال بدا ساذجاً وغبياً وهو يتلقى ضربات رويجح باستسلام.
لم يتدخل الناس في البداية، فهم رغم ادعاءاتهم إلا أنهم يعرفون جيداً سبب ما يحدث ولكنهم لا يعرفون التصرف المناسب في هذا الموقف، ربما شعروا بخيانتهم لرويجح وحملوا أنفسهم ذنب استمتاعهم غير الأخلاقي بما يحدث من ورائه فتركوه يكيل الضربات الواحدة تلو الأخرى لسالم حتى خافوا على هذا الأخير من الموت تحت (العجرا). ومن العجيب أنهم ما إن خلصوه منه وفرقوا بينهما حتى بدأت جمل غريبة تقال من ألسنتهم:
«خلاص يا رويجح.. عطيته حقه»
«لا تضيع نفسك عشان ذا التافه»
ساد الهدوء في الحارة بعد ذلك، لم يعد أحد يجلس على الباب لفترات طويلة، لم تعد التجمعات كبيرة كما كانت، والنوافذ لم تُفتح كثيراً. هناك شعور ملتبس، مضطرب، لم يُفهم، ساد الحارة وسكانها، شعور مبهم يتأرجح بين ادعاء الحشمة وربما الحسرة أو مزيج من الندم والخجل. فعاد الناس لمتابعة قصص الحب على التليفزيون بملل، والكثير منهم باتوا يحضرون صلاة الجماعة في المسجد، وهناك من التحى ولسانه لا ينفك عن طلب الستر لنسائه ونساء المسلمين. حاول بعضهم إعادة المياه إلى مجاريها مع رويجح ولكن هذا الأخير قابلهم بصدودٍ صلف ولم يعرهم اهتماماً وتوقف عن إلقاء التحية عليهم بل ولم يعد يردها إن ألقوها عليه. ومن بحثوا عن سالم لم يجدوه، لم يغادر منزلهم منذ الحادثة وغار في حجرات بيتهم العميقة ولم يعد يخرج منها.
في اليوم السابق لانتقال رويجح وأهله من الحارة، شوهد هذا الأخير يستقل سيارته ويخرج من الشارع عصراً. ثم لم يتأخر باب بيتهم حتى فُتح بعده وأطلت منه غادة مرة ومرتين وثلاث بطريقةٍ جريئة وغير معهودة ولم يسبق لها القيام بها. كانت تتعمد إخراج رأسها من وراء الباب وتسبر الشارع من أوله إلى آخره ثم تعود إلى الداخل دون أن تغلق الباب ولا تلبث طويلاً حتى تعيد النظر للشارع. في بعض المرات كانت تُخرج نصفها العلوي كاملاً كي تستطيع رؤية الشارع جيداً غير آبهة بالمارة أو بنظرات الذين يتابعونها حتى مر قعيّان أبو الذهب من أمامها فنادته وذهب إليها. لم يطل مكوث الصبي معها خلف الباب، خرج من الفناء بعد لحظات ورآه الأهالي يعقد ثوبه على منتصفه وينطلق مسابقاً الريح وفي يده رسالة. وقبل أن يتجاوز منزل رويجح بخطوات كانت الصيحات قد ترددت بين جدران الحارة:
«قعيّان أبو الذهب يركض في الشارع»
«قعيّان أبو الذهب يركض في الشارع»
هذه المرة وسّعَ الناس له الطريق وركض في منتصف الشارع، عادت النوافذ لتُفتح تباعاً وتحركت من خلفها الستائر، حُبستْ الأنفاس، وتوقفتْ الحركة في الحارة برمتها والأعين تطارد قعيّان أبو الذهب حتى وصل بيت سالم وطرق بابه وسلمه رسالة غادة الأخيرة.
انتهت
** **
- خالد سعيد الداموك