أ.د.صالح معيض الغامدي
ستركز قراءتي الموجزة هذه للسيرة الذاتية التي كتبتها د. أمل التميمي بعنوان «في مشلح أبي وجدي، طفولتي: الذاكرة الطاغية» على أربعة محاور أو أبعاد رئيسة هي: الأسلوب السهل القريب، والبناء المركب، وتخلق السيرة الذاتية، وعلائقيتها.
1- الأسلوب السهل القريب: كتبت هذه السيرة بأسلوب سهل ولغة واضحة تقترب كثيراً من النفس القارئة، بحيث لا يحد القاريء أي حذلقة كتابية ولا تأنقاً أسلوبياً مبالغاً فيه، فقد كتبت السيرة بأسلوب يناسب كل أنواع القُرّاء بغض النظر عن مستواهم العلمي وثقافاتهم. وربما كان الهدف من وراء استعمال هذا الأسلوب السهل هو، أولاً، الرغبة في إبرازه أسلوباً مناسباً للمرحلة العمرية المسرودة في السيرة، مرحلة الطفولة، وثانياً الرغبة في أن يبدو السرد واقعياً إلى أقصى حدٍّ ممكن. والواقعية اللغوية، كما نعلم، من أبرز سمات الواقعية في الأعمال الأدبية.
2- البناء المركب: ونعني به البناء المتعدد المستويات، أو المتشظي. فالكاتبة لم تلتزم بأيٍّ من نُظم السيرة الذاتية المألوفة مثل أسلوب «التدرج التاريخي» (الكرونولوجي)أو الأسلوب المكاني أو الموضوعي ( الثيمي) التزاماً تاماً أو وفياً، بل نوعت في استعمال كل هذه الأنظمة السردية المألوفة في سيرتها الذاتية، وأضافت إليها مكونات أخرى، بعضها لافت للانتباه، كما حدث في الفصل المعنون بـ «شريط الذكريات» والفصل الأخير المعنون بـ «السيرة الذاتية المتخيلة»، وهو فصل فريد من نوعه حقاً، وإضافة مميزة في أساليب كتابة السيرة فيما يبدو لي. ويمكن تسمية هذه الاستراتيجية السردية التي وظفتها التميمي في هذا الفصل بـ «الاسترجاع التخييلي». وربما كان السبب من وراء بناء هذا الفصل بهذا الشكل هو تحقيق هدفين رئيسين، أولهما أن الكاتبة ربما شعرت بأن هناك أحداثاً وأبعاداً سيرذاتية أخرى تتعلق بطفولتها لم تحظ بالتغطية الكافية في الفصول المسرودة السابقة فأرادت استدراكها من خلال إقامة هذا الحوار المتخيل في هذا الفصل بين الكاتبة ووالدها يرحمه الله. وثانيهما هو أن الكاتبة قد كانت ترغب فيما يبدو في ربط مرحلة الطفولة في حياتها بالزمن الحاضر، إذ لا يمكن للسيرة الذاتية المخصصة لمرحلة الطفولة عادة أن تفي بهذا الغرض، أقصد أن تتجاوز سرد مرحلة الطفولة إلى سرد الواقع المعاصر للكاتبة. لذلك ربما ارتأت الكاتبة أن توظيف هذه التقنية الحوارية التخييلية يمكن أن يحقق لها هذا الهدف, دون أن تبدو متجاوزة للحدود الزمنية التي حددتها لسرد سيرتها الذاتية.
3- تخلّق السيرة الذاتية أثناء الكتابة: يبدو أن الكاتبة لم يكن لديها مخطط واضح المعالم لسرد قصة حياتها في مرحلة الطفولة قبل أن تبدأ في كتابتها، وقد تشكلت السيرة إلى حد كبير أثناء عملية الكتابة، ولذلك ربما لا نبالغ إذا قلنا بأن الكاتبة تعرفت على كثير من ملامح حياتها وشخصيتها أثناء الكتابة، فقد كانت الكتابة في حدِّ ذاتها اكتشافاً للذات. وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن الكاتبة لا تمتلك تصوراً أو تصوراتٍ معينة لكيفية كتابة السيرة الذاتية، فهي أستاذة متخصصة في هذا الجنس الأدبي، وقد كتبت فيه كثيراً من الدراسات، ولكنها في اعتقادي قد آثرت أن تغيب الحس النقدي عندها أثناء كتابة سيرتها الذاتية لمرحلة الطفولة، وأن تجعل من فعل الكتابة ذاته رحلة لاكتشاف الذات والتعرف عليها عن كثب، وذلك ربما لتقويمها وتطويرها وتحريرها، طلباً للتعايش معها والرضا عنها، تقول الكاتبة في سيرتها على سبيل المثال: «عدت إلى ذكريات طفولتي لكي أصقل نفسي من جديد» (ص 23). وتقول مخاطبة والدها: «للأسف يا أبي أخطأت في حق نفسي، فاكتشفت أني كنت أعيش في الظل، كنت أوثق صور مناير [ ابنة الكاتبة] في كل محفل، وكل مناسبة ثقافية، ولا أجد نفسي في الصورة، كنت خارجها» (ص263).
4- علائقية السيرة الذاتية : تعد سيرة «في مشلح أبي وجدي» سيرة علائقية بامتياز، فالكاتبة رغم أنها تنجح في إبراز شخصيتها في سيرتها كما ألمحنا إلى ذلك فيما سبق، فهي تبرز أيضاً كثيراً من شخصيات الآخرين في حياتها سواء أكانوا من أقربائها مثل شخصية الأم والأب والجد والجدة وأفراد العائلة الآخرين ( العلاقات القرابية)، أم كانوا شخصيات أخرى اتصلت بهم الكاتبة بطريقة أو بأخرى مثل شخصيات الزميلات والزملاء والطالبات ...إلخ، أم شخصيات قرأت عنهم مثل نزار قباني ومي زيادة و كلود مونيه وغيرهم. ولعل العنوان الذي اختارته الكاتبة لسيرتها «في مشلح أبي وجدي» أكبر دليل على علائقية هذه السيرة الذاتية.