سهام القحطاني
وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشداً
المتنبي
وإني وإن كنت الأخير زمانه
لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل
- أبو العلاء المعري
وما يجمع بين هذين القولين الشعريين هو قيمة فعل الخلود بواسطة الشعر؛ كونه ذاكرة مستدامة، مقاومة للفناء، عصية على تقلبات الدهر، أو هكذا ظن الأوائل.
وهذه الخاصية أقصد خاصية اندماج ذات الشاعر مع ذات الشعر لم تُعرف إلا في العصر العباسي على يد المجددين؛ أي تحوّل الشعر من دائرة الجماعة إلى الخطية الفردانية، فلم يعدّ الشاعر يؤمن بجماعية الشعر إلا من خلال ذاته، وهذا الخطية الفردانية هي التي خلقت الذات الفكرية للشاعر عندما تحوّل من ردة فعل للعقل الجمعي إلى تكوين عقلي مستقل مختلف عن العقل الجمعي وحينا متمرداً عليه، ولعل أبا العلاء المعري يعدّ نموذجاً لهكذا تحول في الشعر العربي، لكن من نافلة القول في هذا المقام، أن كما كان للخطية الفردانية دور في خلق فكرية الذات الشعرية للشاعر، كان لها أيضاً دور في إسقاط دور الشعر في منطقة الظل في نهاية العصر العباسي بسبب غلوه في الصنعة الفنية، هذا الغلو الذي أوقعه في الغموض فانقطعت علاقته بالمجتمع، وتراجعت مكانته في الصدارة لِتحلى محله الفنون النثرية.
وتراجع هذه المكانة لم تكن بسبب غلو الصنعة الفنية، بل إضافة إلى ذلك هناك سبب التغير في الذوقيّة الأدبية للجمهور في تلك المرحلة؛ فالشعر هو فن شفهي في أساسه، و الشفهية هنا مرتبطة باللامكان وهذا الارتباط له علاقة بحيوية خيال المتلقي التي يُداعبها الشعر فتتجاوز أي متلازمات منطقية.
وكلما تأطر المكان تراجعت مكانة الشعر؛ لأن التأطير يعني الواقعية والتي هي عكس الخيال، ولذا يتفق كثير من المفكرين أن الواقعية هي الإدراك في مستوى الموجودات ومستقراتها، ولذلك غلبت المقامة الشعر في العصر العباسي وتصدرت ذوقية الناس؛ لأنها أصبحت مرآة لأحوال المجتمع في ذلك الوقت، وتناسبت مع انتشار الأسواق والمطاعم التي كانت مجلساً لتداول المقامات، إضافة إلى أسلوب ثنائية الحكاية التي لم يألفها العرب وكان مستورداً من الحكايات الهندية والفارسية، كما تضمنت ملمحاً توعويّا بقالب ترفيهي.
فهل هذا العرض الموجز يعني أن لكل عصر أدبه؟ وما مدى صحة هذه الفرضية للصلاحية الزمانية للفنون؟
قد يرى البعض أنها صحيحة باعتبار التطور المعرفي للإنسان والذي يستتبع بالضرورة تطور في رؤيتة الوجدانية والفكرية، فهناك فنون تراجعت عبر العصور مثل الشعر وفن المقامة والرسائل والموشحات، فطريقة التفكير والتعبير تختلف وصياغة العلاقات تتعقد؛كون هذه الثنائية -الطريقة والصياغة- هما موضوع الفنون، كما أن مستجدات وسائل التعبير لها تأثيرها في نفي بعض الفنون أو إبقائها حاضرة في دائرة الضوء، والأمر هاهنا يعود إلى طبيعة كل فن ومدى قابليته في التشكّل عبر الوسائل التعبيرية المستجدة وتطبيقاتها.
والبعض الآخر يرى أن لا صلاحية زمنية لأنواع الفنون والإبداع، فالرسم ظل فناً حيّاً منذ النقوش على الكهوف وحتى يومنا هذا وسيظل رغم اختلاف وسائله وتطور تعبيراته ومدارسه، وإن التصوير الفوتوغرافي أو الرقمي لا يزال في أصله يعتمد على ذات جوهر الموهبة الرسم.
المسرح الشعري اليوناني والحكايات العربية ظل جوهرها خالداً رغم تطوراتها الفنية وظهور الرواية والقصة وتقنياتهما السردية وانتقالهما من المسموع إلى المرئي، ومن الورقي إلى فنون الإبصار وتمثيل الخيال كالسينما أو التلفاز، فالحكاية تظل هي جوهر هذه التطبيقات.
والشعر الغنائي منذ حداء البدو الرحل مروراً بالموشحات وصولاً إلى «الراب» ما زال جوهره هو «شعرية الكلام».
ويمكن قياس بقية الفنون وفق تلك المسطرة السابقة، فجوهر الفن الإبداعي هو ظل خالداً لكن تطبيقاتها هو المتغير وفق تطور وسائل كل زمن، وقدرة الفاعل على عصرنة ذلك الجوهر وفق مستجد وسائلها وتطبيقاتها.
والعصرنة هنا لا تقتصر على الشكلانية بل تجديد المضمون وأساليبه وفق تلك الوسائل والتطبيقات.
وخلاصة القول في هذا الأمر أن استدامة الصلاحية من تزمينها وسواء في مجال الشعر خاصة أو الفنون الإبداعية عامة هو أمر يتعلق بالقالب الفني ومدى توافقه مع تطور الذوقية ومرونة أسلوبه وتحوله وتمرده على تقليديته، فهل نجحت الفنون الإبداعية التقليدية في تحدي العصرنة والحداثة؟ والإجابة على هذا السؤال هو مقال آخر.