الثقافية - علي القحطاني:
كان يبحث عن إجابة لسؤال: كيف نشأت وتطورت «الأخلاق المدنية» في الحضارة الغربية منذ جذور العصر اليوناني حتى مشارف القرن العشرين عنوان دراسته الأكاديمية التي تقدّم بها لنيل درجة الدكتوراه «انفصال الأخلاق عن الدين في الحضارة الغربية» ورغم الصعوبات والعوائق التي رافقت المؤلف وفي لقاء «الثقافية» مع د. عبد الرحمن بن خالد الخنيفر تحدث عن تلك الرسالة الأكاديمية وتحدث عن واقع الفلسفة في المملكة العربية السعودية التي تشهد حراكًا منذ عقدين؛ كان العقد الأول مرهونًا بسؤال تجديد الهوية الدينية، والعقد الثاني شُغِل بتأسيس الهوية المدنية ويرى أن جامعاتنا وأقسامها العلمية مفتقرة إلى البحث الفلسفي؛ لكونها الوقود والمحفز للبحث العلمي، ولصناعة سوق استهلاكية للأبحاث الفلسفية لأغراض نيل الدرجات والترقيات العلمية وفي أثناء دراسته للفكر الأخلاقي الغربي، وتحديدًا عند منحى عصر النهضة، وجد تأثيرًا للفيلسوف العربي ابن رشد القرطبي ت 595هـ/1198م على المفكر الإيطالي مارسيليو أوف بادو ( ت1342م ) في التأسيس لأخلاقيات السعادة المدنية، ويرى د. عبد الرحمن بن خالد الخنيفر أن المخطوطات الفلسفية العربية تعاني من شحّ المشاريع العلمية لتحقيقها وفقًا لأقدم وأصح النسخ المخطوطة حول العالم، ونشرها نشرًا علميًّا خاليًّا من التصحيف والانتحال وهناك رسائل وكتب فلسفية لم تُطبع منذ نحو (1200) عام،كما تحدث د.الخنيفر عن قراءاته الحرّة في الفلسفة وعلاقة المحاماة - التي زاولها - بالفلسفة، وتدريسه لمنهج «الفلسفة» ويطالب بضرورة الاهتمام بها في مراحل التعليم العام.
الأخلاق المدنية
* دراستك في الدكتوراه كان عنوانها: (انفصال الأخلاق عن الدين في الحضارة الغربية) دراسة نقدية، حدثنا عن سبب اختيار هذا الموضوع؟
_ كنتُ أبحث عن إجابة لسؤال: كيف نشأت وتطورت «الأخلاق المدنية» في الحضارة الغربية منذ جذور العصر اليوناني حتى مشارف القرن العشرين، واستخلصت تسع صيغ أو أنماط للأخلاق المدنية حتى عصر الحداثة، وبطبيعة التطور التاريخي المستجيب لجدليات صراع الواقع، ظهرت صيغ أخرى للتمدن الأخلاقي في عصر ما بعد الحداثة، وما بعدها (عصر ما بعد العلمانية)، وهي صيغ جديرة بالدراسة والتحليل الفلسفي العميق، لطرح إمكانية تجديد المسؤولية الأخلاقية للأفراد والمجتمعات والدول في الحياة المعاصرة. ولذلك أوصت أطروحة الدكتوراه بـ(29) توصية علمية (بحثية) في حقل الدراسات الأخلاقية الغربية والعربية الإسلامية، وتوصيات عملية تنتهي إلى ضرورة إنشاء مركز عالمي تتبناه المملكة، أقترح تسميته بـ(المركز العالمي لتوثيق القيم الإنسانية والأخلاقيات المهنية).
واقع البحث الفلسفي
* ما هو برأيك واقع البحث الفلسفي في السعودية؟
_ تشهد الفلسفة حراكًا - وفي بعض الأحيان صراعًا- في المملكة منذ عقدين؛ كان العقد الأول مرهونًا بسؤال تجديد الهوية الدينية، والعقد الثاني شُغِل بتأسيس الهوية المدنية، وبين هذين السؤالين؛ تشعبت السؤالات الفلسفية: الوجودية والأخلاقية والمعرفية للأفراد، بحثًا عن يقينيات أو ظنيات كبرى تسعف لفهم الذات واحتياجاتها، وتساعد على فهم الواقع العالمي المعاصر، وتقييم التراث والثقافة العربية.
أمَّا واقع البحث الفلسفي في السعودية، فلا أحسب أن تقوم له قائمة وقيمة دون تأسيس أقسام علمية للفلسفة في بعض كليات الآداب بالجامعات؛ لأنها الوقود والمحفز للبحث العلمي، ولصناعة سوق استهلاكية للأبحاث الفلسفية لأغراض نيل الدرجات والترقيات العلمية.
ابن رشد القرطبي
* حدثنا باختصار عن سبب اختيارك لموضوع بحثك المشارك في المنح الفلسفية؟
_في أثناء دراستي للفكر الأخلاقي الغربي، وتحديدًا عند منحى عصر النهضة، وجدت تأثيرًا للفيلسوف العربي ابن رشد القرطبي ( ت1198م ) على المفكر الإيطالي مارسيليو أوف بادو ( ت1342م ) في التأسيس لأخلاقيات السعادة المدنية. فتساءلت -حينها- هل عرفت الحضارة العربية الإسلامية أخلاقًا مدنية، مستمدة من المروءة العربية، أو الآداب الفارسية، أو الفلسفة اليونانية؟ وبعد النظر، وجدت أن الحضارة العربية الإسلامية جعلت من كل ما سبق مصادرَ للأخلاق المدنية. فأردت الغوص في أسباب ترجمة العرب للتراث الأخلاقي اليوناني في القرنين الثالث والرابع الهجري، وكيف قرأه فلاسفة الحضارة العربية، فكان هذا سبب اختياري لموضوع: «طرائق تلقي فلسفة الأخلاق اليونانية وتأويلها في الحضارة العربية الإسلامية: دراسة تحليلية من القرن الثالث حتى نهاية القرن الخامس الهجري».
المنح الفلسفية
* مشروع المنح الفلسفية أتاح الفرصة للباحثين والمهتمين بالحقل الفلسفي، هل ترى لها من تأثير ملموسٍ في الواقع على المدى القريب؟ وما الآفاق التي تتمناها لمشروع «المنح الفلسفية» في نسخه القادمة؟
_ تقدم الفلسفة رؤى تحليلية مغايرة للسائد والموروث؛ لأنها تستجلب «اللا مفكر فيه» للتفكير، و»الهامش» للمركز، وهذه القضايا تزلزل مجمع اليقينيات، وتُحدث إرباكًا فكريًّا ونفسيًّا للوهلة الأولى والثانية، حتى تأخذ مأخذها من النقاش والمدارسة والسجال العلمي وفق أخلاقيات الحوار. هذه الدورة الفلسفية لتغيير قناعة الفرد تستهلك حيزًا زمنيًّا -قد يمتد سنينًا- فكيف برؤية أثر ملموس في الواقع (الفضاء العام)؟ أعتقد أن ذلك يستلزم عتادًا من الصبر والرباط على ثغور التعليم ونشر الوعي العقلاني.
أمَّا الآفاق التي أتمناها لمشروع المنح الفلسفية، فهي في المنحى الكمي لا الكيفي، وذلك برفع عدد المنح البحثية إلى (15-20) منحة بحثية، حتى تُعطي مجالًا أرحب للراغبين بالمشاركة.
المخطوطات الفلسفية القديمة
* تُعِد رسالة ماجستير بمعهد المخطوطات العربية عن مخطوط فلسفي من القرن الرابع الهجري -لم يسبق طباعته- هل تحدثنا عن أحوال مخطوطات الفلسفة؟
_ تعاني مخطوطات الفلسفة العربية من شحّ المشاريع العلمية لتحقيقها وفقًا لأقدم وأصحّ النسخ المخطوطة حول العالم، ونشرها نشرًا علميًّا خايًا من التصحيف والانتحال، وقد نثير دهشة المشتغلين بالفلسفة العربية إذا قلنا لهم إنَّ هناك رسائل وكتبًا فلسفية لم تُطبع منذ نحو (1200) عامٍ، أي من القرن الثالث الهجري (العصر الذهبي للترجمة من اليونانية)، وهناك رسائل ومؤلفات لم تطبع إلا مرة واحدة في مجلة استشراقية نادرة قبل مئة عام، وهي من المؤلفات الفلسفية الهامة في القرن الرابع الهجري (عصر فلاسفة بغداد)، تتناول موضوعاتها: أخلاق الفيلسوف، واشتراط الفلسفة للطبيب، وأسباب اختلاف العادات والاختيارات، ومنها رسائل منسوبة لأرسطو وجالينوس، وأخرى مشهور أنها فقدت لابن سينا.
فضلًا عن مخطوطات الفلسفة مجهولة المؤلِّف، فمثلًا لم يترجم كتاب «أخلاق ناصري» لنصير الدين الطوسي (ت672هـ ) للعربية من الفارسية إلا قبل (15) عامًا، بينما وجدت ترجمة عربية مخطوطة تعود للقرن الثامن الهجري، وهناك مخطوطات نُسبت لغير مؤلفها، ككتاب «تهذيب الأخلاق» ليحيى بن عدي ( ت364هـ) وقطعًا ليس له وفقًا لأقدم مخطوطات الكتاب التي تعود للقرن السابع الهجري، علاوة على أسلوب وفكر المؤلِّف. لذلك أرجو أن يكون هناك مشروع إحيائي لتراث الفلسفة العربية المخطوط.
المطبوعات النادرة وإعادة نشرها
* مهتم بالمطبوعات النادرة، وإعادة نشرها، هل تحدثنا عنها؟
_نعرِّف أولًا بالمطبوعات النادرة حتى نفرق بينها والمخطوطات (ما كُتِبَ باليد قبل زمن انتشار الطباعة)، فنقول: إنَّ المطبوعات النادرة هي المواد المنسوخة على نحو آلي على ورق (مطبوعة)، تكتسب ندرتها نظرًا لقدمِها أو قيمتها العلمية أو محدودية نسخها أو رونق طباعتها أو غرابة موضوعها أو مكان إصدارها؛ بحيث يصعب تعويضها لو فُقِدت بسبب شُحِّها وغلائها، ويدخل في عِداد المطبوعات النادرة: الكتب والصحف والمجلات والمنشورات والمستندات، ويتطلب حفظها عناية خاصة، وهي في تقديري الشخصي من أهم الأوعية المعرفية المرجعية بعد المخطوطات، لأنها أشبه ما تكون بالوثائق، عربيًّا تُعدّ المطبوعات الصادرة في القرن التاسع عشر ذات أهمية بالغة تفوق نظائرها المخطوطة، لكونها مرآة للأحوال السياسية والثقافية للمجتمعات العربية -في ذلك الزمن-.
في مجال المطبوعات الفلسفية النادرة، أصدرتُ ببليوغرافيا مختارة بأندر المطبوعات الفلسفية العربية، الصادرة منذ طباعة أول كتاب فلسفي عربي عام (1593م) حتى ما قبل نحو خمسين عامًا (1970م)، بلغت (250) كتابًا نادرًا، ونسخته الإلكترونية متاحة للمهتمين، وهو من إصدارات (نادي معكال للمطبوعات النادرة).
المحاماة والفلسفة
* عملت في مجال المحاماة والاستشارات القانونية، هل هناك قاسم مشترك بينها وبين الفلسفة؟
بالتأكيد! فاليونانيون قبل أن يُعرفوا بالفلسفة عُرفوا بسنِّ القوانين، ومن أشهر مشرِّعيهم دراكو (ت600ق.م) وصولون الفيلسوف (ت558ق.م) الذي عدَّه الشهرستاني من «الأنبياء العظام». ومحاورة «القوانين» لأفلاطون لا غنى عنها لكل قانوني يبحث عن فلسفة التشريع ومغزى الإلزام. ومن هنا تبرز قيمة «التشريعات الأخلاقية» التي تنبثق منها -على سبيل المثال- أخلاقيات المهنة، وهي بمكانة الحديقة الخلفية للضبط القانوني الجزائي، ومسؤولة عن تقنين الذوق العام والارتقاء بالسلوكيات العملية لأعلى درجات التمدن، بحيث يعد منتهكها خارقًا للتوافق الأخلاقي داخل المؤسسة أو المجتمع.
وبحمد الله لم أُكره على القانون، كما أُكره دي يد هيوم (ت1776م)، فكان أهله يظنون أنه يقرأ كتب القانون الجامعية، بينما كان في الحقيقة يلتهم سرًا كتابات شيشرون ورجيل.
القراءة الحرّة في مجال الفلسفة
* بمن تأثرت من الكتاب، ولمن تقرأ؟
_التأثير الفكري مرحلي بحسب مخزون القارئ من الاطلاع والقراءة، ويختلف باختلاف الملكات والهيئات النفسية. وأذكر أنَّ عددًا من القرَّاء تأثروا -بل تزلزلوا- من قراءة «تكوين وبنية العقل العربي» للجابري، بينما لم أجده مؤثرًا كتأثير مشروع «سوسيولوجيا الفكر الإسلامي». في حقل فلسفة الأخلاق؛ أدين بالفضل للمرحوم توفيق الطويل ( ت1991م ) وللمأسوف عليه إيمانويل كانط (ت1804م) وللجابري في كتابه «العقل الأخلاقي العربي». أمَّا القراءة العامة فأقرأ عربيًّا لأدباء وفلاسفة القرن الرابع الهجري (التوحيدي، الفارابي، السجستاني وغيرهم)، وأدباء النهضة العربية في القرن التاسع عشر الميلادي كآل البستاني وآل اليازجي. وغربيًّا لفلاسفة اليونان، وفلاسفة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على وجه الخصوص.
وظيفة الفلسفة
* ما هي وظيفة الفلسفة برأيك، وهل لديك مفهوم خاص للفلسفة؟
_أعتقد أن مفهوم ودور الفلسفة يتمثل في خلق فضاءات من التفكير الحر، وابتكار سرديات كبرى -لا صغرى كما يروج الما بعد حداثيين- فالعالم المعاصر يعيش اليوم وفق رؤى فلسفية كبرى للسياسة والاجتماع والاقتصاد والأخلاق، صيغت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وما جرى بعدها كان نقدًا أو اجترارًا، الفلسفة تخلق المفاهيم، وتعيد تصورنا للكون والواقع والذات، يتعاظم دور الفلسفة اليوم؛ لأنها لغة الخطاب المشترك بين الحضارات والثقافات، التي يؤمل منها صنع مفاهيم للعيش المشترك بين الإنسانية، في تصوري أنَّ الفلسفة مختطفة من الدول والجماعات المدنية لتوظيفها وإكراهها على خيرية الأفكار والقيم المصدَّرة من الدول المسلحة بالقوة لا بالحق.
تدريس مناهج الفكر اليوناني
* تُدرِّس مناهج الفكر اليوناني القديم ومناهج البحث العلمي، هل من معوقات، وإلى أي مدى يمكن تدريس مواد الفلسفة بالتعليم؟
_ تجربتي في تدريس هذه المواد كانت مقتصرة على طلاب الدراسات العليا، وبكل صراحة أشعر بالإحباط الشديد من جرَّاء الضمور المعرفي لدى الطلاب عدا بعض الأفذاذ -الذين لا يقاس عليهم- هذا الضمور يُستشف من بُعدين، الأول: مدى الشغف بالفلسفة والقراءة في مفاهيمها وتاريخها. وأستذكر هنا مثالًا لمادة (منهج الفكر اليوناني القديم) أنِّي بعد إنهاء إلقاء ثلاث محاضرات عن الاتجاهات الفلسفية ما قبل سقراط، سألت الطلاب سؤالًا لأختبر مدى إلمامهم بالمادة، فقلت: هل درس سقراط على أرسطو أم أرسطو على سقراط؟ وأجاب الكل بأحد هذين الخيارين، بينما الحقيقة أنَّ أرسطو درس على أفلاطون، وهو بدوره درس على سقراط, والبُعد الثاني: مدى القدرة على توظيف المناهج الفلسفية لتحليل الأفكار والنصوص. وهذه لا ألومهم فيها كثيرًا؛ لأنها تتطلب جَلدًا في التحصيل المعرفي. لذلك أرى ضرورة تدريس مادة الفلسفة في التعليم العام والجامعي، وعدم الاكتفاء بمواد التفكير النقدي.
** **
@ali_s_alq