د. شاهر النهاري
ذكَرتني الكاتبة والمسرحية القديرة الدكتورة ملحة عبد الله في مقال لها الأحد 14 مايو 2023 في جريدة الرياض بعنوان «الإذاعة والثقافة»، ومن معرفتها بتاريخي الطبي البعيد جداً عن مجالات الثقافة أكدت على أن الإذاعة كانت رافداً من روافدي الثقافية.
ولعل هذه المفاهيم لا تخطر على بال الجيل الحالي الذي لم يصاحب الإذاعات وشحها، وبعد وعمق منابعها، وجماليات وإبداعات ما كان يحدث فيها من لغة رصينة وثقافات متعددة جعلتها أقرب إلى الجامعات من كونها مجرد مصدر ترفيه وقتي.
نعم، فأغلبنا نحن جيل الطيبين ومن عرفنا بعض الرفاهية، ولم نشقَ في زرع ولا قلع، كنا قد عشنا حياة حالمة لم تكن في بداياتها تلفزيونات ولا شاشات ولا مواقع تواصل، وكان الفرد منا يثابر ويجتهد كثيراً، ويتأكد من سلامة بطارية الراديو، ويرفع ويخفض العمود اللاقط، ويتحرك بين زوايا غرف البيت، ويلتصق بالنوافذ، وربما يخرج للشارع أو يرتقي سخونة السطح للبحث عن نبضة صوت تأتي من بعيد.
نعم لقد كنا خبراء بكيفية اصطياد مواقع الإذاعات المتميزة، وكنا نعتبر أنفسنا تلاميذ صغاراً في فصولها، وكم توجهنا للموجة القصيرة للبحث عن صوت «إذاعة لندن»، مأسورين بشفافية وحرية وسمو الطرح، و»مونت كارلو» بلهجة «فرانكو عرب» قمة التحضر، وكم تعلقنا في حبال الموجة الطويلة لنطول إذاعة الرياض وجدة، ولو أن برامجها حينها لم تكن بالشكل الجاذب، إلا نادرا، وبغرابة بعض برامج المسابقات وما يطلبه المستمعون، وترفيه تقليد الأصوات بحكايات أم حديجان.
ولا تسألوني عن لذة المكوث حول جهاز الراديو الضخم، لسماع طرب أم كلثوم وعبدالوهاب، وفريد الأطرش، ونجاة وفيروز، ومحمد عبده، وسميرة توفيق، أو احتضان جهاز الترنزيستور، قبل ساعات النوم، والتنقل بين إذاعات مصر «هنا القاهرة»، و»صوت العرب»، و»إذاعة الشرق الأوسط»، والتي كانت تحتوي من الثقافات الكثير، وليس فقط بأساسيات اللغة والنحو والخطاب المعروفة في مذيعيها، ولكن بمن تستضيفهم من كبار الأدباء والمفكرين، والسياسيين العرب، وضع تحت السياسيين عدة خطوط.
نعم فلا أتذكر أن وسادتي باتت خالية من الراديو، ولا أعرف كيف ومتى كنت أغطس تحت صفحة النوم، ومتى كانت البرامج تنتهي، والمؤشر ينتقل بينها بخفة أنامل الناعس العارف، ويظل صوت التشويش يهدر كمسار نمل من حولي، وأنا لا أدرك هل كنت نائماً أو مستمعاً أو محاوراً سائلاً ومجيباً على ما يصعب على مخيلتي نسيانه من حوارات وندوات وبرامج كانت عندي أيقونات الدنيا، التي أتمنى ديمومتها.
نعم، فلم أكن لأبرأ من إدمان الإذاعات إلا ساعات الدراسة، ومهما عربد الجو وأزبد وأرعد، ومهما كثرت دروسي، وتشابكت صعوبات امتحاناتي.
لقد كنت رغم غضاضة سني أجد الكثير من حولي في البيت أو المدرسة يصمتون، ويتبادلون اتساع فتحات أعينهم وأفواههم، حينما أشرح أمامهم، ما كانوا يعتقدون أنه عسير المنال على سني، أو معترض في مسار دراستي، وكنت أنا أسعد وأزهو بذلك، فكم ساعدني في مجريات السرد، والذي كان يداعب أناملي هواية وشخابيط مراهق على قصاصات الورق، وكم وقف معي في مواجهات حوار وإقناع وتعبير عن الذات، وتعلي المسارح الدراسية والجامعية، حيث استمر معي ذلك بعدما غادرت لدراسة الطب في الإسكندرية، فكان الراديو لصيقي، ورفيقي، ومتعتي، ونديم سهراتي، رغم أن ساعات بث التليفزيون القليلة كانت تدهشنا ببياضها وسوادها، وحتى بعد تحولها لألوان الدهشة، ولكن الإذاعة الواثقة الجامعة بتنوعها تبقى الرافد الأصيل، الذي لا ينضب معينه طوال الوقت.
نعم، ولكم الحق بألا تصدقوا هذا الغرام المتجدد مع الإذاعات، والذي استمر معي طويلا حتى بعد عودتي من البعثة، وعملي في بعض مستشفيات المملكة العسكرية، والراديو يظل شريكا لي في كل غفوة.
واليوم، ورغم كل تقدم وكل جنون تقدمه لنا مواقع التواصل، ورغم ذبول أوراق الصحف والكتب في الأيدي، أجدني ما أزال ذلك المراهق المستزيد، أحن للإذاعات، وبرامجها المتنوعة، والتي لا تستلزم بذل كل الوعي، حين تأخذ سامعها من بحر إلى شط إلى عمق الفضاء، ومن علم إلى معرفة، ومن أخبار إلى أدب وفنون، فأجد نفسي مع مواقع الانترنت ومع الهاتف المحمول بشيء من التحايل، حين أعاملها بنفس معاملتي للإذاعة، فأدخل على مواقع «اليوتيوب» وأختار حوارا أو مناظرة أو ندوة منتقاة أجعل هاتفي الجوال يحتويها، بالصوت، ودون صورة، وفاء لعشق الإذاعة، فأفسح للصوت مساحة ود على وسادتي، ليقوم بأعمال مصباح علاء الدين، ويحملني عاليا ويعيدني للماضي، للتمتع بصوت ثقافي سياسي فلسفي منطقي أرتاح له، وأجده خليقا بأن يرافقني ويسعد دقائق ما قبل منامي.
نعم، أستغرب أن يعتقد الكثير أن الثقافة تكمن فقط في الورق، وأن تهمش أدوار الإذاعة، تلكم الجامعة عن بعد، المنتخبة من مدارك الشخص ذاته دون إسفاف أو قبول لما ليس قويم، وباختيار مواد ي ود لو يقرأها، ودون أن يحمل السلم بالعرض، ويحتج على سرعة العصر وتقنياته، فيقرر أن يلبسها ثوب حبيبته، وسمير وحدته، حتى ولو نهض من فراشه بالغد، وهو لا يتذكر منها الكثير، ولكن صدقوني أن العقل الباطن الحي يسمع، ويكتب، وينقش، ويرسم، ويترك ملفاته جاهزة لحين حاجة، كلما أمسك مثلي بحاسوب، ليكتب موضوعاً جديداً أثيراً.
نعم، يا دكتورة ملحة، أنت صادقة في أننا جيل ثقافة الإذاعة، وأننا يجب أن نفخر بذلك، وصدقيني، لو عادت بي الأيام، فلن أختار غيرها رفيقة لوعيي وخيالي وقدرتي على التشبع والبوح والتصوير، والنقد، ونشر براعم وفروع شرايين القلب على مدارك الجميع ليقرؤوا فيها من أنا حقيقة، ويفهموا كيف تشبعت أيامنا القديمة سعادة ورغم كل نقص فيها، ولكنا بصدى الحنين للعدل والصدق وحب الأرض والإنسان جعلناها نبراساً، وحضوراً، وتمكناً، وفوق كل ذلك جعلناها عشق عمر، وكتبنا فيها قصائدنا وخواطرنا وكتبنا، وخطوط مداركنا وعقلياتنا، ووجودنا فوق سطح طفولة يظل يلتمع ويراقص النجوم والأقمار، وهالات الضياء، وهمسات كهرومغناطيسية محببة حميمة تزيد من شحننا.