الثقافية - مسعدة اليامي:
تروي لنا في تناغم فريد القاصة صوفيا الهدار بدايتها الحميمية مع القصة كتابة وقراءة، وتوضح لنا أن الكلمة الصادقة العميقة الخارجة من عنق رحم التجارب.. ما هي إلا الحقيقة التي تخاطب القلب، والعقل معا دون مواربة وإن كان الحزن، والألم يلثمها إلا أن الأحلام لا تشق طريقها إلى الموت، طالما هناك أمل في كتابة رواية واحدة تخلد التاريخ.
* كيف كانت البداية مع القصة قراءة وكتابة؟
- في بداية هذا الحوار أحب أولا أن أتوجه بالشكر الجزيل لـ»الجزيرة الثقافية» والشكر الخاص لحضرتك، الصحفية والأديبة الراقية أ.مسعدة اليامي على هذه الفرصة الجميلة وأتمنى أن أكون ضيفة خفيفة الظل على قرائكم الكرام.
منذ بدايات تشكل وعيي كانت القصة حاضرة في بيتنا، ليس فقط على شكل قراءة لقصص الأطفال القصيرة التي حرص والداي على توفيرها لنا، ولكن لأن قصص ما قبل النوم كانت طقسا من طقوس بيتنا الحميمية التي كان والدي وجدتي رحمهما الله يقومان فيها بدور الحكواتي، التي مارستها لاحقا مع ابنتي وأطفال الأسرة.
أما بالنسبة لبداياتي مع كتابة القصة، ربما أتذكر أنني حاولت في طفولتي كتابة بعض القصص القصيرة السردية والمصورة لأخوتي الصغار كمحاولة لإصدار مجلة أسبوعية لهم، تشكلت من أوراق دفاتري القديمة، وكانت بكل أبوابها من تأليفي في محاكاة مني لمجلة ماجد. لكن علاقتي بقراءة القصة وكتابتها توقفت عند عتبة الطفولة، ولم تخط أي خطوة خارج تلك المرحلة، حتى جاء صوت المصادفة يناديني بعد عشرات السنين من خلال اشتراكي في مجموعات أدبية كمبتدئة في كتابة الخواطر السردية، كان لقائي بالقصة لقاء المحب المشتاق، ومع أول قصة أو قصتين قرأتها لبعض المشاركين وجدت في داخلي رغبة ملحة لمحاولة كتابة قصة قصيرة، فاستدعيت بداخلي الشغف القديم، فكتبت أول قصة أدبية التي نالت استحسان القراء، والتي حرصت لاحقا على تضمينها في مجموعتي القصصية، وللمفارقة الطريفة أن عنوان القصة كان (آخر نص) ولكن بالنسبة لي كان هذا النص القصصي بدايتي مع القصة القصيرة والبوابة الأولى التي خطوت نحوها ففتحت لي آفاقا واسعة من الفرص وما قد اسميه بمقياسي الشخصي نجاحا لم أحلم به قط.
* الكتابة القصصية بحر كيف تكيفت مع أمواجه العالية؟
- لقد غامرت بدخولي بحر الكتابة الواسع دون معرفة مداه، وبلا قارب أو طوق نجاة، سحرني صوت أمواجه، فاستجبت لندائه، وما زلت أتعلم السباحة في فضائه، أحلم بالإبحار عميقا، لكنني مدركة الآن أن الأمر ليس بسهولة البدايات، إن الولوج للعمق يتطلب صناعة الأدوات، يتطلب القراءة ثم القراءة ثم القراءة ثم النقد. لست في صراع مع أمواجه، لأنني ما زلت عند شواطئه، ولن أتطاول وأقول بأنني سأكون يوما أحد ربابنته، ولكني أحلم أن يكتب اسمي بحبر مائه، وأبقى في عمق ذاكرته، دون أن يبتلعني الإخفاق ويضيع صوتي في مجاهيل الزمن وأعماق النسيان.
* الموهبة لا تكفي ذلك أكيد، فكيف كانت الزوادة المعرفية التي أعانتك على ذلك الطريق؟
- لن أقول أنني تزودت بما يكفي فلا زلت جائعة للمزيد وجاهلة بالكثير، ولكني تلمست قدر ما استطعت من ضياءات بعض عمالقة القصة والرواية فقرأت بروح تواقة للجمال وبعين مفتشة عن مواطن التفرد في الإرث الأدبي، واستأنست بصحبة رفاق الحرف في مواقع التواصل وعايشت تجاربهم، وجعلت منها مدرسة لي، هذا بالإضافة إلى وزن الملاحظات وتتبع الإضاءات والقراءات النقدية لبعض الأعمال الأدبية في محيطي.
* حدثينا عن علاقتكِ مع خير جليس، وكَيف خَلقت بِداخلكِ كَائنا يَتذُوق الأدب، ويكتبهُ رغم اختلاف التخصص، وهل ترين أن من الضروري أن يكون هناك علاقة بين التخصص والموهبة؟
- في بيتنا القديم كانت لدينا مكتبة متواضعة عبارة عن خزانة صغيرة تضم عددا من الكتب الأدبية العالمية وقصصا للأطفال، والسير ودواوين الشعر، التي لم تتسع لها خزانتنا فتوزعت باقي الكتب على رفوف نوافذ بيتنا الكثيرة، فكان الكتاب في متناولنا دائما، فاستطعت قراءة الكثير من الكتب التي ربما لم أستوعبها جميعا في تلك الفترة لصغر سني. ثم تغيرت ظروف حياتي في فترة من الزمن ليست بالقصيرة أبدا، انقطعت فيها كليا عن مصافحة أي كتاب، حتى أطلت أجاثا كريستي على عالمي المغلق فعدت بذلك إلى أجواء القراءة واستنشاق عبق الكتب، وكان لأخي الأصغر الفضل في ذلك.كان ولا يزال منظر الكتاب في حد ذاته يجذبني، فأضعف عند مروري أمام بسطة للكتب أو رؤية مكتبة عامرة، وأشعر بالحسرة لعدم اقتنائها جميعا، لأني أفوت على نفسي الكثير من الجمال، ولكن هذه المرارة عوضها معلمي الذي لم يبخل علي بأن جعل مكتبته العامرة بالعلم والأدب مفتوحة على مصراعيها أمام شغفي، ثم بتحسن علاقتي بالإنترنت اكتشفت أنه كريم جدا مع من يبحث عن الجمال والمعرفة، وأن مكتباته مفتوحة دائما، لكن الأمر لا يقتصر على كبسة زر ولكنه يتطلب الحب والشغف للأدب والتذوق لجماله. إن كثيرا من المبدعين في مجال الأدب يأتون من خلفيات مختلفة وتخصصات بعيدة كل البعد عن التخصصات الأدبية، وهذا ما أظنه العامل الأساس في نجاحهم، فهم بعيدون عن أدوات النقد، جاهلون بأساليبه وشروطه، فيأتي نتاجهم الإبداعي متحررا من قيود النقد، فهم يكتبون دون قواعد ويتركون لوعيهم أن يحدد الشروط والتقنيات والمنطق، وذلك بعكس المتخصص في الأدب والنقد فهو ربما يتردد في كل خطوة، ويحسب حسابا للهفوات والعثرات فيحد ذلك من غزارة إنتاجه، وفي اعتقادي أن المتخصصين في اللغة والأدب يمتلكون أيضا مواهب أخرى بعيدة جدا عن تخصصاتهم يبدعون فيها ويتنفسون فيها خارج القواعد والقوالب.
* كيف قرأت قصصك التي قدمت على هيئة أفلام، وهل ترين أن الأعمال السينمائية حياة أخرى للقصة؟.
- إن تحويل قصة أو رواية إلى عمل سينمائي يستدعي أحيانا من المخرج رؤية مغايرة لشكل القصة، ولكن توحد مع ثيمة القصة وموضوعها، وهذا ما وجدته في الأفلام القصيرة التي قدمتها المخرجة الواعدة رشا هاشم، وجدت في الأفلام صوفيا ورشا، وليس صوفيا فقط التي أراها في قصصي المكتوبة، وهذا أمر طبيعي تفرضه أدوات المخرج وموهبته وكذلك طبيعة العمل، ولكن هذه التجارب خدمتني كثيرا جدا، فلولاها لما وصل اسم صوفيا إلى بعض المهرجانات العربية المتخصصة في الأفلام القصيرة.
* هناك من يكتب للمال، وهناك من يكتب للشهرة، وكتّاب جنوب اليمن يكتبون للكلمة، فلماذا الكلمة؟
- عندما تفقد كل أسلحتك تبقى الكلمة سلاحك الوحيد، لتدافع عن حقوقك وإنسانيتك، عندما يخذلك العالم والمجتمع الدولي ويتجاهل معاناتك وقضيتك، لن تجد سوى الكلمة التي تقف في وجه الظلم، والتي تحرك الضمير الإنساني، وتوثق التاريخ والأحداث على حقيقتها دون مواربة وبدون مستحضرات تجميل، فالكلمة هي الشيء الوحيد الخالد الذي لا يموت.
* قصصك اجتماعية سياسية موغلة بالألم والوجع، فهل ذلك شاهد على أن الكاتب أبن للبيئة التي يعيش فيها؟
- لا يمكن للكاتب إلا أن يذوب في تفاصيل بيئته ويتوحد مع حياة الناس وتفاصيلها، فلا يمكن أن يعزل الكاتب نفسه في صومعة عالية ينتظر فيها وحي الكتابة أن يتنزل عليه، حتى العزلة نفسها هي توحد مع أحداث في الذاكرة، والذاكرة لا تتشكل إلا بالتجارب الحقيقية في الحياة.
* (كوما، مؤامرة ذبابة، فرصة ثانية، زار) كيف اشتغلت على هذه القصص قراءة وكتابة واختيار عنوان؟
- كل قصة هي حالة فريدة في ذهن الكاتب، قد تأتي كومضة دون سابق إنذار، أو فكرة ملحة تضرب في رأس الكاتب باحثة عن منفذ تتنفس من خلاله. هناك قصص كتبت دفعة واحدة وأصبحت في نسختها النهائية من المسودة الأولى، وقصص أخرى أخذت وقتها من المعالجة والتنقيح.
قصة كوما مثلا حملت قضية أردت أن أكتب عنها في وقت سابق نتيجة لظروف سيئة ومأساوية مرت بها مدينتي، ولكن الشكل والصورة والفكرة التي كتبت بها لم تراودني قط من قبل فخرجت كما لم أتوقع أبدا.
مؤامرة ذبابة كانت إحدى القصص التي كتبت دفعة واحدة في لحظة واحدة دون سابق تفكير، ففي حين كنت أحاول كتابة قصة أخرى تعالج موضوعا آخر فشلت حتى الآن في إخراجه بشكل مرض لي- فقد كنت بصدد تكليف في ورشة للقصة القصيرة - جاءت مؤامرة ذبابة كومضة أضاءت مخيلتي وأنقذتني من إحباط سيطر علي حينها، بل إنها أصبحت القصة التي عرفني من خلالها كثير من النقاد والمهتمين بالأدب والقصة.
بالنسبة لقصة فرصة ثانية فهي على غرار قصة مؤامرة ذبابة تسلط الضوء على ممارسات وقضايا كانت وما زالت تؤرق المواطن العربي، ليس في بلدي فقط ولكن على امتداد الجغرافيا العربية.
قصة زار تناقش قضية اجتماعية مُعاشة في بيئتي الضيقة، طالما شغلت تفكيري في مرحلة الطفولة كلما حضرت عرسا وشهدت زارا.
بعض القصص تأتي إليك حاملة اسمها فكأنها شخص لا يمكن أن تتخيل أن تعطيه اسما آخر غير الذي صافحته في لقائك الأول، وبعض القصص كالمولود الصغير الذي رزقت به، تظل تبحث عن اسم جميل له، وقد تختار واحدا من بين عدة خيارات. والقصص الآنفة الذكر جاءتني جميعا تقريبا باسمائها، وإن أعدت النظر وأجريت تعديلات في عناوين بعضها لكني عدت أخيرا إلى اسمها الأول.
* في حال طلب منك الحديث عن بعض عمالقة الأدب باليمن، وذكر أبرز وأهم أعمالهم .. ماذا تقولين؟
- هناك الكثير من الأسماء التي زينت سماء الأدب، وامتد شعاع إبداعها إلى خارج حدود جغرافية البلد، ولكن كتابات محمد عبدالولي لامست وجداني ربما لأن مصافحتي الواعية الأولى للقصة القصيرة كانت بين دفتي أعماله الأدبية الكاملة.
* هل الكتابة القصصية القبلة الوحيدة التي تعانقينها، أم أن هناك فنونا سردية تريدين أن تخوضي غمارها مستقبلا؟
- تستهويني قراءة الومضات وكتابتها، وأعشق التكثيف الذي يميزها، وأعتقد أنها نافذة جميلة للإبداع، لكنها لم تنل حقها من حظوة كما باقي الفنون.
أما الرواية فأنا حتى الآن لا أطمع بأن أكون روائية، ولكن هناك رواية واحدة تشغل تفكيري، يكفيني من التجربة أن أكتبها في يوم ما، حتى أشعر أنني حققت حلما واكتفيت به.
* ما رأيك في المشاركة في الكتب المشتركة وخاصة أن لك مشاركة في كتاب ملاذ وشجون أخرى ـ سلسل السرد المنشور الصادر عن دار ربيع للنشر؟
- لقد سبقت تجربتي في الكتاب المشترك، إصدار كتابي الخاص، لذا فقد كان لهذه التجربة عظيم الأثر في وجداني، وخطوة مهمة في مساري الأدبي، إن المشاركة في كتاب عربي مشترك أعطاني مزيدا من الثقة فيما أكتب، اختبرت من خلالها تجربتي في خارج محيطي الضيق. أن تشارك قصصي مع مجموعة جميلة من الكتاب العرب المبدعين فهو أمر مشرف وتجربة رائعة أتمنى تكرارها، وفي هذا المقام فرصة لأشكر الأستاذ محمد بن ربيع على تلك الفرصة والجهود التي بذلها وما زال يبذلها في خدمة الأدب.
* هل ترين أن العالم الافتراضي خلق تقاربا بين الثقافات، وكيف ترين جودة تلك الأعمال التي رأت النور بسبب ذلك التقارب، وماذا عن مجلة فنار عدن الثقافية؟
- لا شك وأن العالم الافتراضي خلق تقاربا في الثقافات، وأزال الشوائب التي فرضتها ظروف لا علاقة لها بالأدب، وعمق الوجدان العربي والإنساني، إن تبادل الرؤى والأفكار في قوالب أدبية راقية يخدم الأدب والأدباء أنفسهم، صحيح أن هناك مواقع ومجلات افتراضية تنشر الجيد والمسيء جنبا على جنب، لكن الإبداع الحقيقي يفرض نفسه ويجد طريقه إلى النور دائما. لقد كان للعالم الافتراضي الفضل الكبير فيما وصلت إليه مما قد اسميه نجاحا سواء في المجموعات الافتراضية المحلية أو المجموعات العربية المشتركة، لقد كان انضمامي لمجموعة ملتقى القصة السعودي التفاعلي، مكسبا من مكاسب التواصل الاجتماعي والذي من خلاله استطعت التعرف على تجارب خارج النطاق المحلي، إضافة إلى فعالياته المتميزة التي تعد بمثابة ورش عمل مستمرة نتعلم منها دائما.
** **
- شرفة على الفنون الأدبية