لم ينتبه أن ظلام الليل قد قارب من ضرب أوتاده على أرضية المكان، إلا بعد أن تعذرت عليه رؤية قدمه، المكان أشبه بمغارة صخرية ليست عميقة، تشكلت من تل يربط سفحاً بآخر تآكل معظم جدرانها من جراء الأمطار الدائمة في المنطقة، اختاره ليأويه بعد أن استقر عليه منذ أسبوع بعد تجوال طال لأكثر من شهر.
ربط المئزر جيدا حتى لا يسقط أي مسمار أو حلقة قد تشكل فارقا في ميزان البائع غدا.
رفع البساط الذي ثقل وزنه، بعد أن امتزج بالطين وزخات المطر التي تسربت من أعلى الجسر المتهالك، وزاد فيضان المنحدر منها وهو يجوب الطرقات يوم أمس ورأى الحال كما هو عليه.
وعلى الرغم من شدة ما أفرغته السماء ليلتها ولكن في المقابل تحصل على قطع لا بأس بها فحمد الله عليها، فلا بأس من نوم على الأرض اليوم.
دس يده في سطل معلق على جدار أسفل الجسر بحبل تهالك ليفه كان قد صنعه من شجر جوز الهند بعد أن تدبر تنظيف الجوزة وقطعها نصفين واحدة لشرب الماء والأخرى لوضع الطعام إن وجد، بسط جسده بعد عناء ليأخذ راحة تعينه لغده.
الأرض متشبعة برائحة التراب الندي المختلط بماء المطر صوت القطار يسمع من بعيد مع سكون وهدوء الشارع المنزوِ بعيداً عن كل أنواع العجلات التي يستخدمها بنو البشر، هنا يتخيل دفء نار تحتويه من برد تخلّف بعد ليلة ماطرة.
غيبت الطبيعة عمره وحياته وحتى اسمه، حاول الجميع مساعدته بشتى الطرق ولكن دون جدوى. أخذ فكره يسترجع كل تلك الأحداث ولعلها تكون تهويدة الأم لطفلها حتى ينام.
حين رأى من وجده، جسد يتحرك ويئن فانتشلوه وهم يرددون يا رحمان يا رحمان يا رحيم. فبعد مرور ما يزيد عن 24 ساعة على تلك الهزة التي أبيدت كل البيوت القديمة في القرية وحولتها مع من كان فيها إلى حطام، ونجا البعض والبعض الآخر دفن.
لم يتقبل كل القصص التي روت له بعد أن استفاق وعيه، حاول أن يبرمج نفسه على أن اسمه جواد كما قيل له وهناك أمٌّ كان يعولها ثم ماتت وتم دفنها، وبقرة كانت تجر عربة يحمل بها ما كان أهل القرية يطلبونه للتحميل وقد يتعدى القرية بقرى إذا كانت الحمولة ستجلب خيراً أكثر من النقود. ولكن مع ما وقع من هزة ماتت البقرة.
بعدها عاش متجولاً، وكلما رأى قطعة حديد كان يلتقطها.
أخذ معه من ذلك الحطام مع ما كان يلبسه إزاراً، انتشله عندما أفاق على صوت ليدلهم على وجود جسد ممدد لا يكاد يرى منه سوى بياض ذلك المئزر الملطخ بالتراب الذي بان القليل منه بجانبه.
كل الفراغ الذي شاخ في عقله يحاول عبثاً أن يملأه بمحاولات تذكر فاشلة فيرسم في مخيلته جسداً يتعامل معه. تارة يقرب لها الطعام وأخرى يأتي اليها مهرولا مشتاقا بعد تعب وأخرى يأخذها على ظهره يتجول بها في القرية لتزور قريباتها حتى البقرة كانت لها نصيب اختارها بلونين سوداء عليها بقع بيضاء متوزعة بطريقة عشوائية تجر عربة بسيطة بها عجلات كبيرة كانت هذه تهويدته اليومية.
تسلل النوم إليه باكراً فحمولة الخرقة كبيرة ويستطيع أن يسترد منها نقودا كثيرة، أقلها أن يشتري عجلة ليبعد بها أكبر قدر من المسافة عله يجد حلما لم تستطع مخيلته تصوره.
أفاق بصوت جلبة لم يعهدها وعندما فتح عينيه رأى اثنين رفسه أحدهما ليقوم بينما قام الآخر بفك المئزر وبعثرة جميع ما فيه وهما يهددانه بعدم الحراك. سأله أحدهما:
ماذا تخفي غير هذه المسامير والقطع البالية؟
رد عليهما: ليس معي شيء وإن كان معكم شيء آكله جميل أن نتقاسمه.
ضربه بعد أن انتشله من كتفه ليوقفه على طوله:
هل تستهزئ بنا؟
أشار إلى زميله بجمع ما تبعثر.
تركا صاحبنا ورحلا.
لم يبدأ يومي بعد وها هما يأخذان حلمي ويرحلان بكل بساطة!
تمتم وبكل تقبّل قام منكسرا وقرر الرحيل.
لملم ما كان يستخدمه في يومه وترك الفراش علّ آخر يستفيد منه.
رحل وهو يقول: أخذوا المئزر بما فيه, ليتهم تركوه.
أعاد صاحبنا ترتيب أولوياته من جديد, إذ لم يعد جمع الحديد مجدياً فراودته الكثير من الأفكار ليكسب منها قوت يومه. مر في طريقه على امرأة.
طول مع جسم نحيف وملامح ترى من بعيد وضوح وسماحة مع بساطة تبيع الإفطار في مكان منعزل اتخذت من برميل قاعدة لوضع صينية بها أرغفة من الخبز مغطاة بقطعة قماش أظهرت القليل منها شاعت رائحتها من بعيد فاقترب منها سائلاً:
هل تريدين أن أحمل معك هذا الخبز لتبيعيه؟
أعرف في الجانب الآخر عمالا يشتغلون لرصف طريق.
قاطعته، ليس معي ما أعطيك في المقابل. أحتاج للمبلغ بكل قرش فيه، رد: أريد فقط رغيفاً منه.
وجدت المرأة العرض مغرياً فوافقت.
حمل الصينية على رأسه وتممت حديثها، والبرميل أحتاجه أيضاً.
فكر كيف سيحمل الصينية والبرميل معاً، دحرج البرميل أمامه والصينية تربعت على رأسه والمرأة خلفه. كان سريعا في حركته اذ لا زال فتيا، مر على طرق ممهدة ومرتفعة أعاقه روث البقر وبرك المياه المتناثرة والعديد من المعيقات لكنه لم يأبه.
على تلة سقط البرميل فمر سريعاً وانحرف عن مساره حتى وقع جانباً.
اضطر أن يتوقف فأنزل الصينية عن رأسه حذراً حتى لا ينزلق وحاول إخراج البرميل، كانت الحفرة عميقة نوعاً ما والماء المتجمع زاد من إعاقة إخراجها والطين المتكدس.
حاول بكل الطرق. خطرت له فكرة أن يبحث عن قطعة خشب لتساعده على إخراج البرميل.
المرأة تنظر باندهاش على عزيمته، سألته ما اسمك؟
توقف لبرهة ثم استمر في محاولاته لإخراج البرميل
كررت السؤال وأردفت: بم أناديك؟
هنا تذكر أول كلمة سمعها بعد معاناته تحت الحطام محاولاً إزاحة الثقل الذي كان عليه من أخشاب وتراب وغيره بعد أن استفاق ورائحة التراب في أنفه. ورأسه الذي لا يكاد يحس به على الرغم من الآلام التي كان يشعر بها تذكرهم عندما كانوا يرددون يا رحمن لحظة إنقاذه فقال لها: عبدالرحمن.
ارتسمت على شفتيه بسمة وملأت صدره راحة لم يشعر في هذه اللحظات إلا بالبرميل وهو يخرج وقد التفت حوله لفافة ثقيلة.
حاول فصلها حضرت معه الفتاة مدت يد العون كانت الخرقة قد التفت حول فتحة البرميل الجانبية وانعقدت حولها وانحسر ثقلها داخل الفتحة نصفها دخل البرميل وبقي الباقي متدليا.
حاول إخراج الخرقة وفصلها وقف عبدالرحمن مندهشا يلتفت حول المرأة ويرجع بنظره إلى الخرقة وهو يقول يا رحمن يا رحيم.
عاد إليه المئزر الذي بدا له محملا بما جمعه من حديد يبدو أن السارقين لم يجدا فيه نفعاً فرموه.
الآن وبعد مرور عشر سنوات على هذه الحادثة، ومن طاولته في المقهى يشاهد مكتبه الصغير في محل الخرداوات الذي تعب عليه ليكون كما عليه الآن، وابنه يلعب بدراجة لطالما كانت أحد أهدافه ليرحل بها بعيداً عن ماض لم يذكر منه شيئاً، مع حاضر يتحدث بمحل يجمع الخرداوات من سبع قرى حوله. اشترى عجلا وبعد العجل سيارة ثم شاحنة كانت صانعة الخبز له أكبر معين. تزوج منها وأنجب ولدا وبنتا. لازال المئزر معلقا في قطعة خشب تلتف حوله عناقيد من الزهور ليحكي قصة العزم والإيمان.
عندما سمع حديث الجالسين في المقهى وهو يحتسي قهوته المسائية.
قال أحدهم وهو ينظر إليه: يجمع الخرداوات لا تميز وجهه من قفاه يلتحف التراب والآن انظر اليه تتساقط النقود من جيبه وأشك أن يكون المقهى ملكه.
رد عليه الآخر: هل تريد أن تقول كل هذا المال من بيع الخرداوات؟
ارتشف كوب القهوة وتوجه للمحاسب وأشار إلى أن حساب الشخصين الجالسين بقرب النافذة مدفوع.
وكتب جملة في ورقة وقال سلمهما إياها: (ليس عيباً أن تفترش الأرض لقلة ما لديك، إنما العيب أن تمشي عليها دون أن تترك أثراً يدل عليك).
** **
عائشة بنت جمعة الفارسية - سلطنة عمان