خالد بن حمد المالك
بحسب مستوى التمثيل، والحضور، والتحديات، والتهيئة المسبقة للاجتماع، وانعقاده على مقربة من مكة المكرمة، وليس بعيداً عن المدينة المنورة، كلها أعطت لـ(قمة جدة) أهمية غير تلك الأهميات التي كانت صاحبت ما سبقتها من قمم عقدت في عدد من الدول في ظروف متباينة وخطيرة، وبينها القمة التي عُقدت في الخرطوم إثر العدوان الإسرائيلي الغاشم على كل من مصر وسوريا والأردن عام 1967م وما أسفر عنه الاجتماع من لاءات ثلاث تمسك بها القادة المجتمعون آنذاك وهي: لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض.
* *
يصف أهالي جدة مدينتهم بـ(جدة غير) كلما كان الحديث عن عروس البحر الأحمر، وهي في (قمة جدة) غير، فقد عادت سوريا إلى مقعدها بعد 12 عاماً من الغياب، وحضر الرئيس الأوكراني ليخاطب العرب مجتمعين شارحاً لهم عن الحرب بين بلاده وروسيا، ومثله أرسل الرئيس الروسي رسالة إلى الاجتماع يظهر اهتمامه بالعالم العربي، وحديث عن الحرب الأوكرانية الروسية، ولم يكن الرئيس الصيني ليفوت هو الآخر فرصة اجتماع القادة العرب في بيت العرب دون كلمة منه إلى المجتمعين.
* *
هذا التودد للعرب، والتقرب لهم، وتحسين العلاقة بهم مصدره الشعور بأن (قمة جدة) لها حسابات في موازين القوى بين دول العالم، وهذه القوة اكتسبها العرب من قوة التضامن الذي ساد اجتماعهم بجدة بفضل العمل الكبير والمهم والعظيم الذي قام به الأمير محمد بن سلمان في الفترة التي سبقت انعقاده ليكون هذا الاجتماع تاريخياً ومؤثراً في كل شيء، وهو ما حدث.
* *
كانت المنطقة قبل انعقاد (قمة جدة) تمر بصراعات وخلافات وحروب، وهناك إجماع على نجاح (قمة جدة) مرهون بتطويق كل ذلك، وأن تكون البداية من المملكة، لكونها الدولة الأكثر تأثيراً، والأكثر إقناعاً وقبولاً، فكانت المصالحة مع إيران نقطة تحول كبيرة على مستوى الاستقرار في المنطقة، صاحبها هدوء الوضع في اليمن، بأمل أن تساعد إيران في إيقاف الحرب، بالضغط على الحوثيين للاتجاه نحو الحوار والدبلوماسية، بعد أن فشلت الحلول العسكرية، ولم يجن اليمن من هذه الحرب غير الدمار والأعداد الكبيرة من القتلى والجرحى بين الطرفين.
* *
وكانت مشكلة السودان قد سبقت عقد القمة بأسابيع قليلة، حرب بكل أنواع الأسلحة بين الجيش والدعم السريع، وكان دور المملكة في ذلك قد تمثَّل في جمع الطرفين في المملكة، والترتيب لحوار يستهدف أولاً الاتفاق على هدنة قصيرة المدى، وتتجدد مرة بعد أخرى، وصولاً إلى إيقاف الحرب، والذهاب إلى حكم مدني، تحقيقاً لمخرجات ثورة الشعب ضد النظام السابق، ما جعل الموضوع يأخذ حقه من الاهتمام لدى القادة المجتمعين، وإن كان لا يزال أمام المملكة بوصفها رئيسة للقمة الكثير من الجهد والعمل الذي سوف يبذل لتقريب وجهات النظر، وإقناع المتحاربين للقبول بوساطة المملكة، لكونها تقف على مسافة واحدة من الطرفين.
* *
قلت: إن (قمة جدة) مهمة وغير، لأن القضايا العالقة كانت كثيرة وكبيرة وخطيرة، فهناك التواجد الأجنبي في سوريا، والوضع المتأزم في ليبيا، ومثلها الحالة اللبنانية، وكذلك الوضع في فلسطين، والاعتداءات الإسرائيلية التي لا تتوقف، ما يعني أن (قمة جدة) كانت محاطة بكثير من الملفات المهمة التي ما كان للاجتماع أن يخرج بمثل ما خرج به من قرارات لولا الإدارة الحكيمة للأمير محمد بن سلمان برئاسته لهذه القمة، والتهيئة قبل عقدها، حيث كانت مثار اهتمام سموه.
* *
لاحظوا أن اجتماع (قمة جدة) اقتصر على الجلسة المعلنة التي تركزت على إلقاء القادة لكلماتهم، ولم تكن هناك جلسة ختامية سرية كما هو معتاد، وسبب ذلك تلك الروح السائدة بين القادة، ما جعلهم يوافقون على البيان الختامي بحسب ما اتفق عليه وزراء الخارجية، وكل هذا ينسب الفضل فيه إلى التقدير العالي الذي يتمتع به خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان لدى إخوانه ملوك وأمراء وقادة الدول العربية، وتثمينهم لدور الأمير محمد بن سلمان في تحضيره الممتاز لهذه القمة، والعلاقة السعودية المتميزة مع جميع الدول العربية.
* *
وما نتوقعه بعد أن غادر القادة العرب المملكة، أن قيادة المملكة للقمة العربية من الآن وعلى مدى عام كامل لن تكون شكلية أو تقليدية، وإنما سيكون ولي العهد الأمير محمد بن سلمان صاحب جهد كبير في تصفير ما تبقى من خلافات بين الدول العربية، وحل الأزمات الاقتصادية في الدول التي تعاني من ذلك، فالمملكة تقود اليوم العالم العربي بروح من المسؤولية والتضامن والحرص على أن تنعم شعوبها بأكبر قدر من الحياة الطبيعية، في ظل أمن واستقرار، وصولاً إلى التركيز على التنمية والبناء.