محمد سليمان العنقري
العالم يتشكَّل اقتصاديًا من جديد ليس فقط على مستوى نوعية الأعمال والعلوم المؤثّرة فيه، بل أيضًا باستخدام أذرع عديدة للهيمنة وتشكيل الخريطة الاقتصادية لكل قوى عظمى أو تكتلات مؤثّرة فكما تحاول دول بريكس أن تعزّز من تحالفها وتتوسع لتشمل دولاً أخرى مدعومة بتوجهات الصين في بناء مشروعها الحزام والطريق الذي جعل منها الأولى بالتجارة الدولية فإن مجموعة السبع الكبار التي اجتمعت قبل أيام واختلفت في طريقة تعاملها مع الصين إلا أنهم يبحثون حقيقةً وضع هيمنتهم على الاقتصاد العالمي بعد أن نجحت دول بريكس بتخطيهم العام الماضي من حيث حجم الناتج الإجمالي عند المقارنة بين ناتج الكتلتين وبذات الوقت فإن الاتحاد الأوروبي بدأ أيضاً ينظر لمصالحه بعيداً عن أميركا فيما تعمل الهند لأن تكون الدولة الأولى من حيث معدلات النمو لأعوام طويلة قادمة.
فالعالم اليوم رغم ما يظهر عليه من انقسام بين أقطاب قديمة وجديدة إلا أن التكتلات التي تضمهم تعاني من تناقضات بالتوجهات فمجموعة السبع التي تضم ثلاث دول من الاتحاد الأوروبي هي فرنسا وإيطاليا وألمانيا تمثِّل نموذجاً لذلك التناقض بالمصالح فهم في مجموعة السبع يتبنون سياسات مع أميركا وبريطانيا تقوم على التوازن مع الصين وبمنطق مواجهة ما أسموه الإكراه الاقتصادي الذي يرون أن الصين تمارسه وكان نقد رئيس وزراء بريطانيا للصين صريحاً جداً معتبراً إياها التحدي الأكبر لكن نجد أن فرنسا وأغلب دول الاتحاد الأوروبي لا ترى بالصين عدواً، بل أكدوا أنهم ليسوا مضطرين للتعامل معها كما تفعل واشنطن وأن مصالحهم مع بكين كبيرة وهو ما يوضح حالة الانقسام داخل هذا التكتل العريق لأهم الدول الصناعية بالعالم بالمقابل فإن بين دول بريكس نوع من الخلافات، فلدى الهند حساسية دائماً من الانفتاح الواسع على الصين وينظر العالم لهما على أنهما متنافستان بجذب الاستثمارات الصناعية تحديداً، بل إن الغرب يحاول استمالة الهند لطرفه لكي يعزِّز قوتها التنافسية مع الصين إلا أن للهند حساباتها أيضاً التي تسعى من خلالها لتحقيق تنمية واسعة ولذلك لا يغريها بالمطلق ما يقدم لها من الغرب لتنحرف معه تماماً في مصالحه وتحديداً مواجهة بكين فهي الآن أكبر دولة من حيث عدد السكان بالعالم وتحتاج لمعدلات تنمية كبيرة وشراكات وعلاقات تجارية واسعة بالعالم، لكن رغم أن قادة مجموعة السبع باجتماعهم الأخير باليابان أكدوا أن سياساتهم «ليست مصممة لإلحاق الضرر بالصين ولا نسعى لإحباط التقدم الاقتصادي والتنمية في الصين» لكن بذات الوقت فإن هذا الكم الهائل من التوصيفات والتصريحات من قبلهم حول الصين وما يظهرونه من تناقض فيها يوضح أن انقساماً حقيقياً أصبح واضحاً بينهم حول التعاطي معها والتي لا يمكن الاستغناء عن التعامل معها اقتصادياً، بل وسياسياً بنظر أغلبية دول الغرب.
فمن هذا الواقع الذي يعيشه الغرب من الخوف بفقدانه لهيمنته يبدو أن المواجهات سترتفع حدتها بالسنوات القادمة وما تظهره بعض التصريحات كالتي قالها الرئيس بايدن عن أن تحسناً قريباً بالعلاقة مع الصين قادم إلا أن ذلك قد لا يطمئن الصين، بل إنه يمكن أن يكون مجرد مناورة سياسية فأميركا تستعد لانتخابات رئاسية العام القادم والتحضيرات والاستعدادات بدأت من الآن والملف الاقتصادي هو من يحسم الانتخابات ولذلك لا بد من أن تتجه إدارة الرئيس بايدن والديمقراطيين حكام البيت الأبيض إلى خفض التوترات مع العالم خصوصاً الصين لمواجهة التضخم ومنع الوقوع بركود وتحسين الأحوال الاقتصادية بعد أن ارتفعت الفائدة لمستوى سيخفض النمو الاقتصادي بنسبة كبيرة جداً، إلا أن تحرك بريكس وبقيادة الصين وروسيا تحديداً يبدو أنه سيركز على دور للمجموعة لمواجهة سياسات الغرب ضدهم فالتوسع دولياً لهذا التجمع بضم أهم الاقتصادات الناشئة سيعني بالضرورة أن قوة بريكس ستزداد وهو ما يدفع بشدة لتبنيهم مستقبلاً نظام مالي بعيد عن هيمنة الغرب وتفعيل دور أذرع تمويلية أسسوها تقلل من دور صندوق النقد الدولي وكذلك البنك الدولي خلال عقد أو اثنين على أبعد تقدير بالإضافة للتكاتف نحو الاستقلال التكنولوجي والاستفادة من ميزة انخفاض تكاليف الإنتاج لديهم وتوفر موارد طبيعية ضخمة بدول المجموعة أو من ينضم معها وكذلك التوجه نحو هدف تقليل الفجوة المعرفية والتنموية بين تلك الدول الناشئة والعالم المتقدم مما سيؤدي بنهاية المطاف لتغير كبير جداً بالنظام العالمي والسياسات التي تقوده.
عالم جديد بعصر قائم على مواجهات من نوع مختلف أساسها الاقتصاد والاستقلال لدول ناشئة اقتصادياً عن تأثير وهيمنة العالم المتقدم الذي يمتلك أذرعاً عديدة استفاد منها لعقود إلا أن الزمن الحالي بدأ يتغير عليهم بعد أن أصبح تركّز الاستثمارات والاستحواذ على سلاسل الإمداد لدى الاقتصادات الناشئة.