عبدالرحمن الحبيب
طبيعتنا البشرية تميل إلى قبول تحويل الوقائع والحوادث إلى قصص مثيرة وتقبلها حتى لو قيل لها إنها مختلقة وقد تفضلها على الخبر الحقيقي. في عام 1844 نشر إدغار آلان بو مقالاً في صحيفة نيويورك صن عن رجل طار عبر المحيط الأطلسي في منطاد. بعدها بيومين، قالت الصحيفة «نعتقد أن المعلومات خاطئة»، ومع ذلك حوصرت مكاتبها من قبل أشخاص يريدون معرفة المزيد عن رجل المنطاد. قصة حديثة مشابهة بالمبالغة الزائفة، عام 2009، نشر زوجان من كولورادو قصة تسببت في تدافع شبكات الأخبار الأمريكية مع مراسليها، حين قالا إن ابنهما البالغ من العمر ست سنوات كان في منطاد عملاق يرتفع 7000 قدم في الهواء. في وقت لاحق من ذلك اليوم، تم العثور على «فتى البالون» في المنزل، حيث يُظن أن والديه المتعطشين للدعاية أخفياه على ما يبدو.
كيف نتفادى التعرض للخداع؟ مجلة الإيكونيميست تقول إنه يمكن للخداع أن يلمح إلى طبيعة المجتمعات التي تقع في حب أبطال القصة المختلقة، ونشرت تقريراً لتجنب ذلك من خلال التوصية بقراءة أهم الكتب عن بعض أكثر الخدع شهرة في التاريخ التي تم فضح زيفها، وإن كان بعضها لم يتم كشفها بالكامل، سنستعرض جزءاً منها.
نبدأ بكتاب» قدوم الجنيات»، بقلم آرثر كونان دويل. إذا كانت التقنيات الحديثة سهلت التلاعب بالصور مما جعل الجمهور يشكك فيها فإنها في أوائل القرن العشرين كانت تُصدق. عام 1917، استعارت فتاتان في قرية كوتنجلي بشمال إنجلترا كاميرا وذهبتا للعب بالحديقة. عندما تم إظهار الصور التي اُلتقطت، أظهرت الفتاتين محاطتين بمخلوقات صغيرة تشبه العفاريت، وصار يطلق عليها جنيات كوتنجلي. بعد أن عرضت والدة إحدى الفتيات الصور في اجتماع للجمعية الثيوصوفية، انتشرت قصة الجنيات. لم يجد خبراء التصوير أي علامة على التزوير، عندها كتب السير آرثر كونان دويل، مؤلف ألغاز شيرلوك هولمز وروحاني متحمس، مقالاً عن الجنيات باستخدام الصور كدليل على وجودها، فتسبب بضجة كبيرة، واصفاً الصور بأنها «حدث يصنع حقبة». وسّع لاحقًا المقال في كتاب نُشر عام 1922 بعنوان «مجيء الجنيات». لسوء حظ المصدقين، لم تظهر العفاريت أبداً. في عام 1983، اعترفت الصديقتان بأنهما زيفتا الصور، رغم أنهما استمرتا في التأكيد على أنهما قد رأتا الجنيات بالفعل.
كتاب آخر عنوانه «مزيِّف: قصة إلمير دي هوري، أعظم مزور فني في عصرنا»؛ بقلم كليفورد ايرفينغ. بعد الحرب العالمية الثانية، وجدت بعض العائلات الأوروبية الغنية نفسها معوزة. هكذا انتهى المطاف بإلمير دي هوري، الأرستقراطي المجري، بجولة في صالات عرض أمريكا، وباع أعمالاً مزورة لماتيس وموديجلياني وبيكاسو ورينوار. قصص حياته في باريس بعشرينيات القرن الماضي، وعلاقاته مع بعض الفنانين الذين زيفهم، أعطته جوّاً من الأصالة ساعده على خداع عالم الفن، وبعد أن باع أكثر من ألف عمل فني مزيف، تم اكتشافه. بحلول ذلك الوقت كان يعيش في إيبيزا، حيث كان إيرفينغ مؤلف الكتاب، الروائي المكافح، جاره. عرض إيرفينغ كتابة قصة دي هوري في الكتاب المذكور. تقول الإيكونيميست من المستحيل التحقق مما قاله دي هوري لإيرفينغ، مما يعمق الغموض الذي يحيط به. من الواضح أن إيرفينغ كان متأثراً بالموضوع، ومضى في كتابة سيرة ذاتية مزعومة للملياردير المنعزل هوارد هيوز مدعياً أنه تعاون في الكتاب معه. في الواقع، لم يلتق الرجلان أبداً، وقد رفع هيوز دعوى قضائية ضد ناشر إيرفينغ، مما أدى بالأخير إلى السجن. اليوم لا يزال البحث جارياً عن تزويرات إلمير دي هوري الذي أصبح سيئ السمعة لدرجة أنه بعد وفاته عام 1976، لا تزال لوحاته المزيفة تغمر سوق الفن.
أما من أشهر الأمثلة بوقتنا الحاضر فنجده في كتاب «صديقتي آنا»، بقلم راشيل ديلواتش ويليامز. آنا سوروكين هي من بين المحتالين المعاصرين الأكثر جاذبية وإثارة في السوشل ميديا، فقد ولدت في روسيا، وابتكرت اسمها آنا ديلفي كشخصية اجتماعية ثرية. بعد انتقالها إلى نيويورك، عام 2013، قامت بالاحتيال بمئات الآلاف من الدولارات على البنوك والفنادق والأشخاص الذين اعتقدوا أنهم كانوا أصدقاء لها. من خلال إقناعهم بأنها ثرية بشكل خرافي، وجدت أنه من السهل إقناع الآخرين بتمويل أسلوب حياتها. كانت الكاتبة راشيل بمجلة فانيتي فير (للأزياء والمشاهير)، واحدة من أولئك الذين وقعوا في فخ حيل السيدة ديلفي، مما كلفها 62 ألف دولار. كتبت عنها في المجلة، ولاحقاً في الكتاب المذكور. هذه الكاتبة انخدعت بالسيدة ديلفي من خلال منشوراتها المثيرة على إنستجرام وبحديثها عن الثقة العائلية وإقامة المؤسسات الخيرية. وفقط عندما ذهبتا في عطلة فاخرة معاً، وخافت ديلفي من الدفع، وتركت الكاتبة مع الفاتورة انكشف الأمر. بدلاً من الاستسلام للمرارة، فكرت السيدة راشيل في السهولة التي يمكن بها لأي شخص استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لخلق واقع بديل. أما سوروكين فتم حبسها لما يقرب من أربع سنوات، ومنذ ذلك الحين باعت حقوق قصتها إلى نتفلكس (رغم أن الكثير من الأموال ذهبت لدفع الرسوم القانونية والتعويضات). وكان شرط إطلاق سراحها، ألا تنشر على انستجرام بعد الآن.