د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
إن كان معالي الدكتور أسامة قد دعا ربه أن يتقبّله في رحابه الطاهرة، حين يأتي يومه، في يوم جمعة من شهر رمضان، فقد استجاب الله لدعائه، إذ تُوفّيَ يوم الجمعة الموافق لليوم التاسع من رمضان 1444هـ، رحمه الله وأسكنه فسيح جنّاته.
وصل معالى الدكتور أسامة إلى الرياض بعد بضعة أيام من تعيينه وزيراً للصحة في ربيع الأول 1416هـ، وكان بدون أيّ مرافق، واستقبله بالمطار: الدكتور عبدالرحمن السويلم وكيل الوزارة للشؤون التنفيذية، والأستاذ عبدالرحمن العبدالكريم مدير مكتب الوزير، وكاتب هذه السطور. وحول مائدة الغداء التي أقامها تكريماً له موظفو الوزارة كان الوزير صريحاً وغير مجامل في توضيح ما سمعه عن الوزارة من قصور في الأداء والالتزام في بعض النواحي الإدارية والمالية، وأنه سيعمل بدون تهاون لإصلاح الوضع.
أظهر الوزير من الصرامة والجدّية في حديثه ما هو معروف عنه خلال عمله في جامعة الملك عبدالعزيز في جدّة، وإصلاحه لأوضاعها. وتلك الصفات لم تكن وليدة المسؤولية الجامعية، بل إنه اكتسبها من تربية عائلية زرعها في أبنائه والدهم مدير الشرطة في جدّة والأديب والصحفيّ المعروف عبد المجيد شبكشي، وقوّت عزيمته في التغلّب على الصعاب المادّية التي واجهته بعد سفره لدراسة الطب في ألمانيا، إلى أن ضُمّ إلى البعثة. وعاد إلى الوطن في عام 1976 حاملاً وثيقة التخصّص العليا في الطب الباطنيّ ومعها ما اكتسبه من خبرة طبية عمليّة ومن جدّيّة في الأداء. والتحق في نفس العام بكلّية الطب في جامعة الملك عبدالعزيز ليمارس الطب عمليّاً وأكاديميّاً. وبعد عشرين عاماً، تخلّلها أيضاً عمادته لكلّية الطب وإدارته الناجحة للجامعة، حمّله الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- وثيقةً أثقل من تلك، إذ وضع وزارة الصحة أمانة بين يديه. فماذا عمل؟ هذه نماذج ممّا أشهد به:
1. كأيّ وزير جديد يأتي من خارج الوزارة ولا يعرف معظم كبار المسؤولين بها استعان بمستشارين يثق في شخصيّاتهم ويحسن الظن في كفاءتهم، أكثرهم من جامعة الملك عبدالعزيز بجدة وبعضهم من جامعة الملك فيصل بالمنطقة الشرقية وجامعة الملك سعود بالرياض، كما طلب نقل موظفين بعينهم من جهات حكومية للعمل كمديرين لإدارات حسّاسة. وكانت شخصيّة الوزير بصرامته وجدّيّته ودقّته هيَ المهيمنة على ما يُتّخذ من قرارات وتنظيمات، وكان أسلوب العمل يمضي وفق ذلك.
2. أكّد الوزير للمقام السامي أنه بدون إزاحة عبء الديون المتراكمة منذ انخفاض إيرادات النفط بين عامي 6/ 1405هـ - 17/ 1416هـ، ومعالجة قصور الاعتمادات بخفض الخدمات أو زيادة الاعتمادات، فإنه لا يمكن إصلاح وضع الخدمات الصحية. وقد وجّه المقام السامي وزارة المالية بأن تنسّق مع وزارة الصحة لحصر الديون ومستحقات أصحابها. وقد بلغ مقدار ما تم حصره ما يقارب التسعة بلايين ريال، وتمّ بالفعل سدادها من خارج الميزانية، أما مستحقات الموظفين عن مكافآت وبدلات فقد سدّدت من وفورات بنود الباب الأول. لكنّ المقام السامي لم يوافق على تخفيض الخدمات الصحية، ووافق على دعم ميزانية الوزارة بملياري ريال؛ كما وافق في 27-2-1422هـ على توصية لجنة وزارية - أمر بتشكيلها لبحث احتياجات الوزارة من الوظائف الصحية- باعتماد (21.000) وظيفة خلال خمس سنوات.
3. رفض معالي الدكتور أسامة أسلوب التعاقد مع الشركات لإدارة وتشغيل مستشفيات الوزارة، وعبّر عن ذلك في أوّل مشاركاته بمجلس الوزراء عند مناقشة مشروع التعاقد مع شركة أمريكية لتشغيل مدينة الملك فهد الطبية بالرياض -حديثة الإنشاء، فطالب باعتمادات كاملة -هي أقلّ بكثير ممّا طلبته الشركة -لتشغيلها ذاتيّاً كمستشفى مرجعي أسوة بما يماثلها من مستشفيات حكوميّة مرجعية، لتُنفق بكاملها على المدينة لتطوير إمكاناتها واختيار متخصّصين مهرة للعمل بها. ورفضت وزارة المالية طلب الوزير لأنه لم يكن للمدينة اعتمادات تشغيل من قبل. لكنّ الوزير واصل برنامجه في تحويل التشغيل التعاقدي إلى التشغيل الذاتي للمستشفيات، وبالفعل فقد وافق المقام السامي في 2-4-1419هـ على التشغيل الذاتي لأحد عشر مستشفى انتهت عقود تشغيلها. ولم يترك الدكتور أسامة الوزارة في أوّل عام 1424هـ إلّا وقد تمّ تشغيل (22) مستشفى ذاتيّاً؛ وجاء الوزراء من بعده فضاعفوا العدد.
4. لم تقتصر ثقة الوزير في القدرة الذاتية لأبناء الوطن على التشغيل الذاتي للمستشفيات التخصّصية، بل تعدّت ذلك إلى تطوير ممارسة المهنة والتدريب التخصّصي العالي محليّاً؛ وأولى اهتمامه منذ تولّيه الوزارة للهيئة السعودية للتخصّصات الصحية التي أنشئت قبل ذلك عام 1413هـ. وفعلاً بدأ تنفيذ برامج التدريب للحصول على الزمالة (البورد السعودي)، وتخرجت أوّل دفعة عام 1419هـ (43) طبيباً، وتخرجت الدفعة التاسعة عام 1427هـ (240) طبيباً، ثُمّ زادت برامج التدريب لتشمل معظم التخصّصات الصحية مع نموّ عدد الكلّيات الصحيّة وخرّيجيها، وتوفّر أماكن التدريب في المستشفيات. أمّا الجزء الرئيسي الثاني من أنشطة الهيئة فهو التصنيف والتسجيل المهني. والتصنيف المهنيّ أساس للتسجيل لدى الهيئة، الذي يعتبر شرطاً للترخيص بممارسة المهنة. وقد حصل الوزير على موافقة الملك سلمان (أمير الرياض آنذاك) على منح الهيئة قطعة أرض لإنشاء مبنىً يستوعب أنشطتها.
5. أنشأ في الهيكل التنظيميّ للوزارة إدارات جديدة لزيادة وتطوير خدمات قائمة أو لأداء مهامّ مستجدّة، هي: -إدارة الطوارئ ،- إدارة ضمان الجودة، -إدارة الرعاية الصيدليّة، -إدارة التوعية الدينية،- إدارة التشغيل الذاتي،- إدارة الأجهزة الطبيّة،-إدارة اقتصاديات الصحة، وهي إدارة غير تنفيذية لتقويم كفاءة الإنفاق الصحي، ولاستكشاف مصادر لإيرادات ذاتية أو استثمار فرص متاحة كرافدٍ لاعتمادات الميزانية.
6. لكنّه اهتمّ بتنظيم العمل وجودة الأداء في أماكن تقديم الخدمة: المراكز الصحية والمستشفيات؛ فكوّن فريق عمل ضخماً من ذوي الخبرة في مجال تخصّصهم لدراسة ووضع دليل مفصّل لمهامّ وجودة أداء العمل في المراكز الصحية والمستشفيات؛ وخرج الدليل بعد ثمانية أشهر كمرجع معتمد.
7. واهتمّ أيضاً بتحديث عدد من الأنظمة الصحية الرئيسية القائمة، وهي:
أ- نظام مزاولة المهن الصحية (الصادر عام1426هـ) تمّ تحديث النظام الصادر عام 1409هـ بمسمّى (نظام مزاولة الطب البشري وطب الأسنان) بإضافة الصيدلة والمهن الصحية الأخرى، وأضيف لشروط الترخيص التسجيل في الهيئة السعودية للتخصصات الصحية. كما ألزم النظام الأطباء وأطباء الأسنان بالتأمين ضدّ الأخطاء الطبية.
ب- نظام المؤسّسات الصحية الخاصة (الصادر عام 1423هـ) وهو بديلٌ عن نظام المؤسّسات الطبية الخاصة (الصادر عام 1407هـ)، حيث يشمل متطلّبات الترخيص وفقاً لأصناف مؤسّسات الرعاية الصحية -ماعدا الصيدلية. ويستثنى من شرط ملكيّة السعوديّ للمؤسّسة المناطق النائية. كما يجيز للوزير الإيقاف المؤقت للمؤسّسة عند ارتكابها ما يعرّض المرضى للخطر أمّا الأخطاء الطبية المهنية فتنظر فيها الهيئة الصحية الشرعية.
ت- نظام المنشآت والمستحضرات الصيدلانية (الصادر عام 1425هـ): هذا النظام بديل لنظام مزاولة مهنة الصيدلة (الصادر عام 1398هـ) حيث إن مهنة الصيدلة أضيفت إلى نظام مزاولة المهن الصحية، ولذا يختص النظام بمواصفات المنشآت -الصيدلية والمستودعات والمصانع – أو المستحضرات الصيدلانية نفسها من حيث إنتاجها ونقلها وتخزينها أو الالتزام بمواصفات تسجيلها وكذلك قواعد تسعيرها.
8. عندما صدر المرسوم الملكي بنظام الضمان الصحي التعاوني في عام 1420هـ، سارع معالي الوزير بدعوة ممثلي الجهات المنصوص عليها في النظام في مجلس الضمان الصحي لعدّة اجتماعات ناقشت برنامج العمل ومشروع اللائحة التنفيذية للنظام الذى أعدّه فريق محلّي وخبير ألماني. وفى عام 1423هـ أقرّ مجلس الوزراء وفقاً للمادّة الأولى من النظام شمول الضمان الصحي للسعوديّين العاملين بشركات القطاع الخاص وأسرهم. وقد انتهت مدّة عمل الوزير في أوّل عام 1424هـ قبل وضع برنامج لتطبيق النظام. وبعد صدور المرسوم الملكي ل(النظام الصحي) عام 1423هـ فقد بادر الوزير بدعوة الجهات التي نصّ النظام على عضويّتها في مجلس الخدمات الصحية لترشيح ممثّليها. لكن معالي الوزير غادر الوزارة قبل الاجتماع الأوّل للمجلس.
9. ما تمنّاه الوزير والوزراء قبله وبعده هو تقليص الفروق الكبيرة بين رواتب موظفي المستشفيات التخصّصية التابعة لجهات حكوميّة أخرى في عقود شركات التشغيل أو برامج التشغيل الذاتي وبين رواتب أقرانهم بمستشفيات وزارة الصحة الذين يساوونهم في المؤهّلات والأداء. وقد رفع الوزير عام 1421هـ ما طالب به الأطباء بوزارة الصحة إلى المقام السامي، الذي أصدر في عام 1422هـ قراراً بالسماح للطبيب الاستشاريّ السعوديّ بفتح عيادة خاصة بمقر عمله خارج الدوام الرسميّ.
10. كلّف الوزير فريقاً من بعض المسؤولين والمختصّين في الوزارة بإعداد مشروع استراتيجية ترسم التوجهات العامة للوزارة نحو تطوير خدماتها الصحية من حيث التمويل والتشغيل وكفاءة الأداء والنظم الإدارية، رفع معاليه المشروع للمقام السامي عام 1422هـ. وقد وجّه المقام السامي بإحالة المشروع إلى مجلس الخدمات الصحية الذى استعان به فيما بعد مع وثائق أخرى في إعداد الاستراتيجية العامة للرعاية الصحية بالمملكة.
الختام: الفقرات السابقة تمثّل مبادرات معالي الأستاذ الدكتور أسامة شبكشي ، ولم تتناول القسم الأكبر من مهامّه الوزارية مثل مكافحة الأوبئة المستوطنة في بعض المناطق أو الطارئة الوافدة وعلى الأخص وباء حمّى وادي النيل عام 1421هـ، ومتابعة مشاريع إنشائية جديدة لمستشفيات ومراكز صحية أو مشاريع معتمدة من قبل ولم تستكمل ، والجولات التفقّدية المستمرّة، والاهتمام بالتحضير والتنظيم للخدمات الصحية في الحج، والحرص الشديد على ترشيد وضبط الإنفاق داخل الوزارة والمديريات.
جزى الله وزيرنا الراحل إلى رحاب ربه خيراً عمّا أنجز وعمّا بدأه وأنجزه غيره.
** **
وكيل وزارة الصحة للتخطيط والتطوير بالنيابة - سابقاً