د. تنيضب الفايدي
تعددت رحلات الكاتب خلال أكثر من ثلاثة عقود إلى أرجاء الوطن الحبيب، وكلّ رحلة تغرس حباً وتصبح ذكرى ماثلة أمام النظر دائماً، كما تصبح تلك الذكرى متعة لاتعدلها متعة، وتولِّد شوقاً إلى الزيارة مرة أخرى وحنيناً يملأ القلب حباً وشوقاً إلى أرجاء الوطن الحبيب، وعندما تكون الزيارة لجزء من الوطن الغالي ويقع ذلك الجزء على الحدود فإنك تحسُّ بعاطفة قوية لهذا الجزء، وكمثال لذلك فإن مدينة حقل تقع على الحدود ويقسم الحدّ الفاصل بين الدولتين جبلٌ من جبال حقل، ووقفتُ على ذلك الجبل وأشعرُ بأنّ الجزء من الجبل نفسه الذي يخصّ حقل أغلى بآلاف المرات من الجزء الذي يدخل في حدود الدولة الأخرى، وتقع حقل على ساحل رأس محمد (أحد فرعي البحر الأحمر)، وتعتبر حقل الآن مركز محافظة حقل ويتبعها عدد من المراكز وهي: مركز الدرة، ومركز علقان، ومركز أبي الخشان، ومركز الزيتة، ومركز وادي الجديد. صيد الذاكرة للكاتب (ص369). وكانت حقل ميناء شهيرة خلال العصور القديمة، وقد وردت حقل في شعر كثيّر صاحب عزّة حيث قال:
سقى دِمنتين، لم نجدْ لهما أهْلا
بحقلٍ لكم يا عَزَّ، قد زانتا حَقلا
نجاءُ الثُرَيّا كل آخِر ليلةٍ
تجودهما جَوداً وتُرْدِفُهُ وَبْلا
وكانت حقل مستوطنة صغيرة في العصر الأموي، ويبدو أن الاستيطان توسع بحقل بعد العصر الأموي، حيث أصبحت قرية بجنب أيلة على البحر، وساحلاً لتيماء والمناطق الداخلية الواقعة في هضبة حسمى وتبوك. الآثار الإسلامية لـ غبان (ص37). قال ياقوت في كتابه معجم البلدان (2/ 278) نقلاً عن ابن الكلبي : «حقل ساحل تيماء». وقال نقلاً عن أبي سعد : «حقل قرية بجنب أيلة على البحر». ذكر الجزيري في كتابه الدرر (2/ 1350): «الحِقل بالكسر: الهودج، والحقيل الأرض التي لا تبلغ أن تكون جبلاً وموضعاً، الحوقلة القارورة الطويلة العنق، وسرعة المشي، ومقاربة الخطو والإعياء والضعف والنوم والإدبار.. والحاقول (سمك أخضر طويل، وحقل قرية بأجا، وأيضاً قرية قرب أيلة، واسم ساحل تيماء، وهو مسافة مرحلة بجانب البحر. قال في موضع آخر: «وبحقل في آخره حدرتان: اليمنى أوسع من اليسرى، والعادة القديمة أن يتغدى الركب بآخر حقل لأجل التزود من الماء».
واشتهرت فترة من الزمن حينما كانت إحدى الأماكن التي يمرّ بها طريق الحجاج من مصر بطريق البرّ، قال أبو عبيد البكري رحمه الله في كتابه المسالك والممالك: «والطريق من مدينة النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصر على الجادة من المدينة إلى ذي خشبٍ إلى السويْدا إلى البزوة، إلى سقيا يزيد، إلى بَدا يعقوب عليه السلام، إلى ضباء، إلى النبك، والصَّلا، إلى عينونة، إلى مدين، إلى أشراف البعْل، إلى وادي الغراب، إلى حقْلٍ، إلى مدينة أيلة إلى بطن نخر، إلى قبر أبي حميد -وهو وادي القباب-إلى القلزم، إلى جب عميرة إلى مصر». ويقول الجزيري: «ثم يرحل إلى حقل مرحلة واحدة ويرد ماءَها وهو أعذب ماءً من أيلة، وهو على ساحل بحر القلزم».
كما جاء ذكر حقل في منازل الحج المصري:
إلى حقل سارتْ والغرام يقودها
وبين جروفِ وردُها ومُناها
وجاء في موضع آخر:
في رابعِ الأيام منها تَرْحَل
قصْداً لبيتِ الله يا مُفَضَّل
يَامَا تَرَى في حقْلَ مِنْ تغْلِيْبِ
وَاطْلعْ إلى الجُرْفَيْنِ منْ قَرِيْبِ
من قبلِهِ ظهْرُ الحمارِ فاتَّئِدْ
فهْوَ صُعُودٌ موْعِرٌ صعْبٌ نكِدْ
كما ذكر المتقدمون بأن حقل كان ساحل تيماء، وذلك باعتبار تيماء أهم بلدة تقع في شمال الجزيرة، وكانت أقوى وأعمر من تبوك التي فاقتها هذه الأيام عمراناً. في شمال غرب الجزيرة للجاسر (ص459).
وتعدّ محافظة حقل إحدى أهم الوجهات السياحية في منطقة تبوك، لمقوماتها الطبيعية المتنوعة والمميزة حيث الشواطئ الممتدة على طول ساحلها على خليج العقبة، والكثبان الرملية، بالإضافة إلى مناخها المتميز، ومن تلك المواقع: جبل اللوز، الزيتة، منطقة علقان، الكورنيش الشمالي، منتزه النخيل التاريخي، قلعة الملك عبد العزيز التاريخية، شاطئ السهبان، شاطئ أم عنم، المطل، شاطئ الوصل، شاطئ الشريح، شاطئ بئر الماشي.
والعقبة وإيلات (أيلة) وحقل متقاربة جداً، ورأى الكاتب ذلك بنفسه حيث رأى جبال الطور وميناء إيلات رأي العين، ولكن هناك بعض الجبال الحدودية تخفي ميناء العقبة، ويعتبر حقل ميناء تيماء قديماً، وحقل حالياً بلدة ليست كبيرة وهي مكان هادئ تحيط به سلسلة جبال حسمى من الشرق وجبال أخرى من الناحيتين الجنوبية والشمالية، وتشكيلة جبال حقل ملفتة للنظر مما يجعل الناظر إليها يعتقد بأنها جبال من الرمل ولكنها في الواقع صخرية، وتعتبر حقل من أجمل المواقع السياحية على ساحل البحر الأحمر حيث اعتدال الجو في أي وقت، وصفاء الشاطئ، إضافة إلى جمال رمالها التي تميل إلى اللون الأبيض وتعامل أهلها الراقي مع من يمرّ بحقل أو يزورها مع وجود أسر من قبيلة الكاتب (الفايدي) بحقل، ويعتزّ بهم الكاتب أيما اعتزاز إلا أنه يشعرُ بأن أهل حقل هم أهله جميعاً وذلك بحسن أخلاقهم وحسن ضيافتهم وتودّدهم إلى من يأتيهم، وتذكّرتُ عند وداع حقل قبل عقدين من الزمن تقريباً بعض أبيات قيلت في الوطن أكررها في حقل وفي كل موقع من الوطن الغالي:
العين بعد فراقها الوطنا
لاساكناً ألِفَتْ ولا سكنا
ريانة بالدمع ، أقلقها
ألا تحسّ كرى و لاوسنا
كانت ترى في كل سانحةٍ
حسناً ، وبانت لا ترى حسنا
والقلب لولا أنَّةٌ صعدت
أنكرته وشككت فيه أنا
ليت الذين أحبهم علموا
وهم هنالك ما لقيت هنا
ما كنت أحسبني مفارقهم
حتى تفارق روحي البدنا