عبدالوهاب الفايز
في الأسبوعين الماضيين شهدنا مناسبات وطنية تجلى فيها روعة المنجز الوطني الذي تفخر به بلادنا.. إنه بناء الإنسان.
احتفينا بوصول رائدَيْ الفضاء (ريانه برناوي وعلي القرني)، واحتفلنا بتوزيع جوائز مبادرة (عصاميون)، وسعدنا بفوز طلابنا الموهوبين بجوائز (آيسف 2023).
كل هذه تقدم (النموذج الرائد) للإنجاز الإيجابي الذي يُحتذى، ويعزز ما تحتاجه الأجيال الجديدة وهو: تكريس رغبة الطموح والأمل لدى الشباب والمراهقين، فهؤلاء في مرحلة التشكل والتنشئة الاجتماعية يحتاجون (النموذج القدوة)، بالذات في عصر صناعة المنتجات الاستهلاكية الشعبية، وفي ظل سيادة النماذج السيئة التي يعج بها فضاء التواصل الاجتماعي، النماذج السلبية للمؤثرات والمؤثرين الذين يقدمون الحياة للشباب والمراهقين بجوانبها الشكلية البراقة، المتعجلون للثراء والشهرة.
منذ خمس سنوات، بدأت شركة محمد إبراهيم السبيعي وأولاده للاستثمار (ماسك) مبادرة لدعم رواد الأعمال (عصاميون). هدفهم تكريم أصحاب قصص النجاح من رواد ورائدات الأعمال السعوديين والقادة التنفيذيين الذين صنعوا تجارب ملهمة في عالم الأعمال، وأيضًا تحفيزهم لاستكمال مسيرتهم. وفي سياقها الوطني، هي مبادرة لتكريم سير رواد الأعمال والتجارة الذين ساهموا في نهضة بلادنا، وكانوا رجال دولة تحملوا المسؤوليات الكبيرة في الأعمال الخيرية، ومنهم محمد إبراهيم السبيعي، يرحمه الله.
كان المشهد جميلاً ومفرحاً ليلة إعلان الأسماء الفائزة بمسارات الجائزة الخمسة. كان الجميع مزهواً وفرحاً برؤية العشرات من الشباب العصاميين الذين نجحوا في تأسيس شركاتهم بعد رحلة تعب ومعاناة وتعثر وإخفاق, في هذا المشهد تقول: هذا الذي تفخر به بلادنا في رحلة بناء الإنسان. الآن المئات من أصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة الناجحة يتم ترشيحهم سنويًّا للفوز بالجوائز الوطنية العديدة، ومنها عصاميون.
لقد سعدت وتشرفت أن أكون في لجنة التحكيم التي استمعت إلى قصص الشباب العصامي، لاختيار الشخصية العصامية. وفعلًا كانت المهمة صعبة لاختيار الثلاث شخصيات من عشرين اسمًا. كل واحد لديه تجربه خاصة متميزة في مسيرة بناء الذات وبناء المشاريع. كل واحد يستحق الفوز بالمراكز المتقدمة. هذه أزمة النجاح.
الجميل في تجربة العصاميون الشباب الجدد هو: البساطة والتواضع والبعد عن الشكليات. وهذه الخصال النبيلة تذكرنا برواد الجيل العصامي الأول الذين عاشوا حياة البساطة والزهد رغم أنهم بنوا المجموعات التجارية العملاقة الناجحة ذات الأثر المتعدي في الخير والمنفعة لهم ولبلادهم. فبعد تخطي عتبات الفقر والعوز، استثمروا انفتاح الدنيا عليهم لبناء المشروعات الوقفية والخيرية، ولم يعرفوا الطائرات أو اليخوت أو الرحلات السياحية الباذخة. كانوا سنويًّا يتصدقون بعشرات الملايين ويعيشون على الكفاف. هؤلاء هم القدوة.
أيضًا القدوات التي نحتاجها لشبابنا هو نجاح وصول رائدي الفضاء السعوديين إلى محطة الفضاء الدولية. هذه من المبادرات المفرحة التي نحتاجها لإلهام شبابنا روح الإنجاز الحقيقي الذي يحقق عمارة الأرض. عودة التجربة السعودية الرائدة لإرسال رواد الفضاء تذكرنا أجواء الاحتفاء والاهتمام التي يبديها الشباب السعودي هذه الأيام وهم يتابعون أخبار رائدي الفضاء.. هذه تذكرنا برحلة الأمير سلطان بن سلمان التي كانت حينئذٍ حدثًا كبيرًا لدى الشباب وطلاب المدارس، ليس فقط في السعودية بل في العالم العربي.
ظل الطلاب يتابعون هذه الرحلة منذ انطلاقها، ورتبت لهم هيئة الفضاء التواصل مع رائدي الفضاء في بثٍّ مباشر، وتم ترتيب أنشطة ينفذها الطلاب هذا الأسبوع مثل (تنفيذ 3 تجارب علمية في أوقات مختلفة، تستهدف كل تجربة مرحلة تعليمية معيّنة، بدءًا بتنفيذ تجربة «انتشار الألوان السائلة» لطلاب وطالبات الصفوف العليا من المرحلة الابتدائية، وتجربة «الطائرات الورقية الفضائية» لطلاب وطالبات المرحلة المتوسطة، وكذلك تجربة «أنماط انتقال الحرارة»، لطلاب وطالبات المرحلة الثانوية).
ثم هناك الحدث الملهم للشباب، وهو الفوز الكبير للطلاب والطالبات السعوديين الموهوبين في المسابقة الدولية في إنجاز غير مسبوق، حيث حقق شباب المملكة 23 جائزة رئيسة، و4 جوائز خاصة خلال مشاركتهم في معرض ريجينيرون الدولي للعلوم والهندسة «آيسف 2023»، الذي أقيم في أمريكا (من 13 - 19 مايو)، متجاوزين آخر مشاركة لهم في «آيسف 22» التي حققوا فيها 16 جائزة.
هذه الإنجازات هي ثمرة بناء الإنسان في عمر جيلين. وقصة نجاح بناء الإنسان المتعلم المستنير بدأت منذ سنوات توحيد الدولة. الملك عبدالعزيز، رحمه الله، فرح عندما عرف أن شخصًا ينتقد مستوى التعليم، فطلب إحضاره ثم سلمه مسؤولية بناء المؤسسات التعليمية. وفي أحد حوارات الملك فهد، رحمه الله، الدورية مع طلاب الجامعات السعودية روى كيف كان يترقب أخبار عودة الطلاب المبتعثين، وكان يبادر بالخروج بنفسه للمطار لاستقبالهم، وروى كيف كان يتسابق مع الأمير سلطان، يرحمه الله، للفوز بهؤلاء الخريجين. الملك فهد تذكر هذه المواقف حينئذ وهو بين الطلاب في الجامعات ويرى الآلاف منهم يتخرجون سنويًّا في الجامعات العالمية والمحلية، وفي الكليات العسكرية والتقنية.
دومًا نحن بحاجة لمثل هذه المناسبات الملهمة للشباب والمراهقين. هؤلاء يحتاجون رؤية الشخص الناجح القدوة كمثال يحتذونه لتحقيق أهدافهم. الناجحون يتمتعون بمهارات القيادة والإبداع، ولديهم الجاذبية لاستقطاب اهتمام وتوجيه المراهقين ومساعدتهم على تحديد أهدافهم وتحقيقها، وحفزهم للاستفادة من تجارب نجاحهم في الحياة. وجود القدوة الناجحة ضروري ليساعد المراهقين على التعلم والنمو وتحديد مسار حياتهم المهنية والشخصية.
مع الأسف هذه القصص الملهمة غائبة في منظومة الإعلام، وتمر على استحياء, ومساحة التغطية الإعلامية، كما هو الحال مع المبادرات والمشاريع الناجحة، متواضعة جدًّا مقارنة بالمساحة المكرسة للبرامج التي تقدم محتوى يتصادم مع متطلبات التنشئة الاجتماعية والنفسية الإيجابية الضرورية للأمان النفسي والاجتماعي للشباب والمراهقين.
لا تقدم لهم نماذج الإنسان المنغمس في إنتاج الحياة والشغوف بالإبداع.. بعيدًا عن السعي للشكليات وتعلم التفاهة.
سبق أن طرحنا هنا في مقال بعنوان (برنامج القدرات البشرية.. هل يُعلم الأطفال البساطة الإرادية.. الجزيرة 13 أكتوبر 2021)، أهمية أن يتعلم الطلاب كيف يطبق ويمارس، عن وعي وإدراك، قيم التواضع والبساطة والقناعة والتسامي على الشكليات الدنيوية، وتعظيم القيم والتطلعات الروحية، والمرونة في التعامل مع مشاكل الحياة وتقلبات الأيام، والتحليل الإيجابي للتحديات والفرص، فهذه مفاتيح (تعلم السعادة).