م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1 - منذ الخمسينيات الميلادية والعالم يصف الصين بالتنين النائم.. فقد كانت منطقة جغرافية شاسعة المساحة، يسكنها ربع سكان العالم آنذاك، ويحكمها نظام سياسي شمولي قمعي شرس.. (90 %) من مجتمعها على خط الفقر، منغلقة على نفسها، لا تشجع السياحة، هي فقط مهتمة بإطعام شعبها.. فالآلاف منهم يموتون سنوياً من الجوع، ونسبة كبيرة منهم مصابون بأمراض صدرية.
2 - حكم الأب الروحي للصينيين (ماو تسي تونغ) الصين بيد من حديد، وطبق النظام الشيوعي بالقوة.. فأمم التجارة والصناعة وصارت الدولة تمتلك كل شيء والشعب كله يعمل لديها.. فساوى في الدخل بين العَالِم والعامل البسيط، فالغاية الأساسية للدولة هي إطعام الأفواه الجائعة فقط.. مما نتج عنه هبوط روح التنافسية، فما دامت الرؤوس متساوية بين النشيط والكسول فلماذا النشاط؟ وركن الناس إلى الكسل وانتظار الطعام من الدولة.. كما أقدمت الدولة على سن أنظمة شرسة للحد من زيادة عدد السكان وذلك بفرض قانون يُلزم الأسرة بإنجاب طفل واحد، وإلا تعرضوا للعقوبة.. وهو ما حد فعلاً من انفجار العدد السكاني للصين، وتقليل عدد الأفواه التي يجب إطعامها.
3 - في عام (1978م) توفي الزعيم الصيني (ماو تسي تونغ) وخلفه (دينج شياو بينج).. هذا الرئيس وجد أنه ورث دولة شعبها اتكالي، وتعاني من العدد الهائل للسكان الذين تحولوا من نقطة قوة إلى نقطة ضعف، ومن طاقة إنتاجية إلى طاقة استهلاكية.. فكان لا بد من قرارات مبنية على رؤية، فأصدر «رؤية الصين خلال خمسين سنة».. وكانت تلك الرؤية هي نقطة التحول الكبرى في إيقاظ ذلك التنين النائم حتى صار اليوم ثاني اقتصاد في العالم، وهو في صعود مستمر، وفي طريقه إلى أن يتبوأ المركز الأول في العالم وسيستمر فيه إلى أجل غير مسمى.
4 - قرر (دينج شياو بينج) فتح الاقتصاد الصيني وأن يحوله إلى نظام رأسمالي في محاولة لرفع روح التنافسية وإلغاء الاتكالية التي أبطلت وأضعفت الروح العملية لدى الشعب الصيني، وجعلته يكتفي بأن يأكل ويشرب لا أكثر ولا أقل.. وسعياً لتحفيز أفراد المجتمع ورفع روح الطموح لديهم، وضع (بينج) قاعدة مفادها بقدر ما تعمل وتنتج سوف تكسب، فمرحلة تساوي الرؤوس للمُنْتِج والعاطل قد انتهت.. هذا لا يعني أن النظام السياسي للصين سوف يتحول للديموقراطية الغربية كما تحول النظام الاقتصادي للرأسمالية الغربية، بل يعني أن النظام السياسي الصيني ظل كما هو ذا حزب واحد، ليس فيه تعددية.
5 - أطلق الرئيس الصيني على مرحلة الخمسين عاماً القادمة للصين مسمى (إعادة بناء الصين).. ثم لخص محددات تلك المرحلة بالنص التالي: «راقب العالم بهدوء، أمَّن واقعك، تعامل مع العالم بهدوء، أَخْفِ إمكاناتك، تواضع ولا تزعم أنك سوف تقود العالم».. واستفادت الصين من تلك المحددات الإطارية فوائد عظيمة.. فهي أولاً: خففت من تخويف الغرب من الصين، وأنها التنين النائم وليس من مصلحة العالم أن يستيقظ، فلو استيقظ فسوف يأكل الأخضر واليابس، ويستعبد البشر.. والثانية: أنها منعت الضغوط الاقتصادية على الصين من ناحية تعويم العملة الصينية، فالصينيون يريدون (وان) منخفض القيمة ليساعدهم في التصدير.. والثالثة: خفض الضغوط البيئية وتلويث الجو، فتحت ادعاء أن أغلب الشعب الصيني تحت خط الفقر ولا يمكن مطالبتهم بالاهتمام بالبيئة لأنها آخر اهتماماتهم، فهم لا يريدون أن يموتوا جوعاً.. الرابعة: شجعت الدول الفقيرة في جنوب شرق آسيا وقارة إفريقيا على التفاوض مع الصين وشراء بضائعها الرخيصة، وبناء منشآتها وفق شروط إقراض ميسرة، حتى سيطرت الصين اليوم على كامل جنوب شرق آسيا ومعظم دول إفريقيا.. والخامسة: عاشت الصين في تنمية انطلقت من جنوب الصين التي وصل النمو فيها إلى نسب خيالية بلغت (30 %) سنوياً، وهذه نسبة انفجارية لم تصلها أية أمة من قبل.
6 - سار على ذات السياسة رؤساء الصين الذين خلفوا (دينج شياو بينج) بما في ذلك الرئيس الحالي (شي جين بينغ).. إلا أنه حينما انْتُخب من الحزب للفترة الثالثة العام الماضي أعلن أن الصين قد حققت مستهدفاتها قبل إكمال الخمسين سنة التي حددتها مع انطلاقة رؤية الصين عام (1978م).. وأنه قد حان الوقت لإجراء بعض التعديلات على تلك الرؤية، وأصبحت: «كن هادئاً، تحلى بالتصميم، اسعى للاستقرار، كن فاعلاً وتوحد حول الحزب، كن جريئاً لتقاتل».. هذا التعديل حَوَّل الرؤية من حالة دفاعية بحتة إلى حالة استعداد للهجوم واتخاذ المواقف المستقلة، وإلغاء مرحلة التخفي والتواضع، وإبراز القدرات والإمكانات الصينية وأنها القوة العظمى القادمة، والتصرف من موقع القوة العالمية التي لها رأي وحضور وتأثير تفرضه على العالم وتقوده.
7 - بحلول عام (2028م) سوف تكمل الصين الخمسين سنة المحددة مع انطلاقة الرؤية الصينية، فما الذي سوف نشهده بعدها؟