د. محمد بن إبراهيم الملحم
عندما تذكر مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع «موهبة» يتبادر إلى ذهنك فوراً التفوق والنجاح والمراكز المتقدمة في المسابقات الدولية، هذه هي مسيرة تلك المؤسسة التي وجدت لأجل التفوق والتميز، وفي معرض آيسف 2023 المقام هذا الشهر في الولايات المتحدة الأميركية حققت المملكة 27 جائزة بين أكثر من 70 دولة ومن ضمنها جائزتان في المركز الأول، و7 جوائز في المركز الثاني، و7 جوائز في المركز الثالث، و7 جوائز في المركز الرابع وهو إنجاز عظيم مشرق يشرف البلاد وأهلها ويفخر به الجميع من قيادتنا الرشيدة وفقها الله إلى أصغر طالب، وفي تحيزي لبلدي الأحساء أشيد هنا بما حققه ابنها الطالب فيصل المحيش في مجال الكيمياء عن مشروعه النوعي وهو «محفز كهربائي قائم على إطار معدني عضوي، لإنتاج الهيدروجين من مياه البحر بكفاءة عالية وتكلفة قليلة»، وكذلك ابنها الآخر الطالب محمد العرفج في مجال الهندسة البيئية تحت عنوان «استعمال سائل تلامس لاحتجاز ثاني أكسيد الكربون بالتجميد من مصادر الوقود والهواء الطلق بكفاءة عالية وسعر منخفض», ومثلهم عدد من أبناء وبنات الأحساء والمنطقة الشرقية التي احتل عدد واضح من أبنائها مكاناً واضحاً في مجموعة الفائزين السعوديين. لا أقول ذلك تفاخراً مناطقياً ولكن أقوله فخراً سعودياً محضاً وسوف أقوله لو لفتت انتباهنا منطقة أخرى بنفس الطريقة، وهدفي من ذلك توضيح عوامل ساعدت المنطقة الشرقية على أن يظهر فيها التفوق في مجالات عدة وليس في مجال الموهبة والموهوبين فقط. فمدارسها دوماً تظهر في مجموعة (وأحياناً في مقدمة) المدارس التي يحقق طلابها أعلى الدرجات في اختبارات قدرات، وطلابها ومعلموها دوماً يتواجدون في الصف الأمامي بمسابقات التفوق العلمي والتربوي مثل مسابقة حمدان بن راشد التعليمية وأمثالها.
أهم هذه العوامل هو شركة أرامكو وغيرها من الشركات العاملة في المنطقة، ولا يعني هذا أن هذه الشركات تدرس أبناء المنطقة ليكونوا متفوقين ولا أن تدرب آباءهم مثلاً على تربية وتعليم أبنائهم وتكسبهم مهارات خاصة في هذا الجانب فيساعدوا أبناءهم على التفوق، وربما يذهب تفكير بعض من هم خارج الشرقية نحو ذلك،
واقع الأمر أن وجود هذه الشركات خاصة أرامكو منذ وقت مبكر جداً ساهم في ارتفاع المستوى الثقافي آنذاك في المنطقة عموماً وهو ما انعكس على تربية الأولاد نحو فضيلة التعلم والانضباط خاصة أن العمل في الشركات يعلم الانضباط بشكل كبير، ثانياً وفي الأجيال اللاحقة للمرحلة المبكرة فقد وفد إلى المنطقة كثير من الموظفين العرب للعمل في الشركة الأمريكية والذين يحملون الكثير من الثقافة والفهم وانتشرت عدواهم في هذا المجتمع، ثم في مرحلة أرامكو السعودية وبعد انتشار التعليم العالي بالمملكة واتساع توظيف السعوديين بالشركات فإن هذه الشركات تحرص على توظيف أفضل الكوادر وهو ما جلب إلى الشرقية من مختلف أنحاء المملكة فئة متميزة من الموظفين المتفوقين علمياً، وهؤلاء المتفوقون أثروا إيجاباً في ديموغرافية الشرقية بارتفاع نسبة الوالدين المتفوقين وهذا بدون شك له انعكاس (جينياً) على الأولاد، كما أن وجود الشركات الأخرى المماثلة لأرامكو في اختيارها للموظف المتفوق مثل شركات الجبيل وتلك المتعاقدة مع أرامكو أسهم في ديموغرافية الشرقية المتفوقة ومثله وجود القاعدة الجوية حيث تدرِّب وتوظِّف مستوى متقدماً من المهندسين والفنيين هذا عدا المستوى العلمي المتقدم للطيار الحربي وهؤلاء جميعاً يضيفون وأبناؤهم لديموغرافية الشرقية على المستوى التعليمي، وهي ظاهرة ملموس أثرها من مناطق أخرى حيث توجد القواعد الجوية مثل تبوك وخميس مشيط، وبالمثل وجود القاعدة البحرية في الجبيل بنفس النسق، وهنا يبرز السؤال بالنسبة حول هذا النوع من الآباء موظفي الشركات: هل تفوقهم ينعكس على الأبناء تطبيقياً أي من حيث مساعدتهم لأبنائهم بالمنزل مما يؤدي لتفوقهم؟ الجواب نعم ولا: نعم لتوقعنا وجود هذه الممارسة غالباً في بعض البيوت، و»لا» لعدم وجودها (من مشاهداتنا) في عدد من البيوت أيضاً وسببه انشغال موظفي الشركات الشديد بعملهم وطول فترة دوامهم.
مدارس الحكومة التي بنتها أرامكو تمثل بعداً آخر للتفوق بسبب روعة مبانيها وتأثيثها وتجهيزها بالمعامل والمكتبات والأجهزة الممتازة مما شجع إدارات التعليم أن تضع فيها أفضل المعلمين وهذا بشكل تلقائي أوجد ما يشبه مستوى المدارس الأهلية في عدد من المدارس الحكومية منذ وقت مبكر، ثم إن مركزية التعلم والعلم في الأحساء كقبلة تعليمية في الجزيرة العربية منذ مئات السنين في تاريخها انعكس على حب العلم والتعلم والاهتمام به وزرع النبوغ في أفرادها كما تنبت النخلة المعطاء ثمرتها الكريمة التي لا يغيرها الزمن.