أ.د.عثمان بن صالح العامر
هناك من يعتقد أن الإنسان يولد صفحة بيضاء ليس لديه معارف مسبقة ولا مكنونات فطرية مستقرة، وهؤلاء هم أصحاب المذهب التجريبي الذين لا يؤمنون إلا بما ثبت من خلال معايشة الحياة ومكابدة آلامها، وعلى النقيض منهم وفي الطرف الآخر أولئك الذين يقولون بالغريزة العقلية ويغالون فيها حازمين بأنه لا غريزة مغروسة في بني آدم غيرها، ولعل من أشهرهم على الإطلاق الفيلسوف اليوناني (سقراط) الذي يعتقد أن العقل خلقه واجب الوجود (يعني الله عز وجل) وأودع فيه الحقيقة الكاملة، ويكفي فقط أن يفكر الإنسان بمنهجية صحيحة ليصل إلى الحقيقة العقلية المطلقة.
وحتى يؤكد سقراط ذلك جاء بعبد مملوك من عبيد فيلسوف آخر يدعى (مينون أمياً) لم يسبق له القراءة ولا يعرف الكتابة مطلقاً، عمره اثنتي عشرة سنة، وجاء بعصا ووضعه على رمل في الأرض، وسأل العبد، هل سبق لك أن تعلمت الرياضيات؟ فقال لا، هل تعرف فيثاغورس، قال لا.
أخذ العصا وخط في الأرض خطاً فقال: ما هذا؟، قال العبد: هذا خط. وخط الخط الثاني فقال: ما هذا؟، قال: هذا خط ثانٍ، قال له قس أي الخطين أطول من الآخر، فقاسهما فكانا متساويين، ثم زاد خطاً ثالثاً ورابعاً وهكذا، فقاس الجميع، فقال إنها أربعة خطوط متساوية وانتهى باستخلاص المبادئ الأولية الفطرية (الغريزة العقلية) لعلم الرياضيات.
وهناك الصوفية والرهبان أولئك الذين يعلون الغريزة الروحية ويهمشون العقلية والجسدية ظناً منهم أن هذا هو الحق المبين الذي يصلون به إلى الله.
ما أردت الوصول إليه فيما إيراد ما ورد أعلاه التدليل على أن هناك غرائز فطرية عقلية، كما أن هناك غرائر روحية تصل بالإنسان إلى الإيمان المطلق بوجود الله عز وجل وهي الفطرة التي أثبتتها النصوص القرآنية والنبوية، وعلى هذا فنحن إزاء غرائز ثلاث (جسدية وعقلية وروحية) يولد الإنسان وهي معه مستقرة في تكوينه الذي خلقه الله عليه، ولكنها لا تظهر وتكون لها الفاعلية في حياة هذا المخلوق إلا حين توجد محفزاتها وتولد بواعثها لدى أيٍّ منا.
اليوم في ظل النظم الرأسمالية ذات الصبغة المادية الحيوانية الصرفة، ومع وجود التقنية الحديثة، ومن خلال منصات التواصل الاجتماعي في العالم الافتراضي يغلب الترويج للغرائز الجسدية وتفعيلها في مقابل التهميش المفتعل للغريزتين الروحية والعقلية، حيث تشاع ثقافة الاستهلاك ويسوق لها عبر مواقع التجارة الإلكترونية ناهيك عن نشر المواقع الإباحية وإشاعة الجنس بشكل فجٍّ واضح.
إن التربية المثالية المتوخاة تلك التي تراعي هذه الغرائز جميعاً فيتحقق للإنسان التوازن النفسي الذي ينال به السعادة والاستقرار ويصبح صاحب (نفس مطمئنة) حين يكتب له التوافق التام بين التكوين الجبلي والحياة الواقعية، حيث لا تطغى غريزة على أخرى في هذه الدنيا، فلا الصوفية ولا الرهبنة مرحب، ولا حتى العقلية الموغلة في خوض دهاليز التفكير فيما هو خارج القدرات البشرية مقبولة وممكنة فضلاً عن الجسدية الحيوانية التي لا يمكن أن تنفصل عن غيرها، وهذا ما يجب أن تراعيه مناهجنا التعليمية ويعيه كل ولي أمر ومربٍّ في عصر المادية الصعب وإلى لقاء والسلام.